دولي
المشروع الاستيطاني بين الإرادة الاستعمارية والأخطاء الفلسطينية
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 10 فيفري 2017
يمكن الحديث عن ثلاث مراحل مرت بها عملية التسوية من بعد إقامة السلطة الفلسطينية، وكان يتأكد في كل مرحلة منها أن هذه العملية آيلة إلى الفشل المحتم. المرحلة الأولى، كانت في العام 1999، إذ انتهت المرحلة الانتقالية دون أن تفضي إلى الحل النهائي، وقد كانت تلك أولى المؤشرات بأن السلطة سوف تراوح مكانها غاية في ذاتها، دون أن ترتقي إلى أي أفق سياسي أرقى، على خلاف الهدف الأساس من تأسيسها.
كانت المرحلة الثانية في العام 2002، حينما قام العدو بإعادة اجتياح المناطق (أ) في الضفة الغربية، التي كانت قد منحت مشروع السلطة معنى سياسيًّا يؤشر على إمكانية تطوير الوضع السيادي للسلطة باتجاه أفق الدولة، بيد أن هذا الاجتياح لم ينف هذا المعنى فحسب، ولكنه -إلى جانب ذلك- خلّص العدو من أهم التزاماته المترتبة على اتفاقية أوسلو، بما كرّس من وجود الاحتلال من جهة، وأعفاه من دفع كلفة الاحتلال من جهة ثانية.
أما المرحلة الثالثة فهي الممتدة من مؤتمر أنابوليس مرورًا بكل محاولات "إحياء عملية السلام" التي فشلت كلها، حتى توج الفشل أخيرًا بقانون "التسوية" الذي يؤكد في مفاعيله العملية استحالة حل الدولتين، ويعني في مستواه السياسي ضم الضفة الغربية، أرضًا دون سكان، وبأقل قدر ممكن من الضجيج.
المؤكد، أن نمط الاستيطان في الضفة الغربية جعل هدف حل الدولتين محالاً من الناحية العملية، إلا بتطورات تعيد تنظيم ميزان القوى بما بحمل العدو على تفكيك كل ما أوجدته هندسته الاستعمارية في الضفة الغربية، وهي تطورات غير قائمة على أي حال.
والذي يبدو أنه ومنذ تصاعد اليمين داخل الكيان الصهيوني، كان الاتجاه يسير بداية من ضم الكتل الاستيطانية الكبرى -وهو الأمر الذي وافقت عليه السلطة نظريًّا تحت عنوان "تبادل الأراضي"- إلى ضم الضفة الغربية أرضًا دون سكان، مع اقتراح عدد من الحلول للسكان، قد يكون منها استمرار السلطة على حالها، مع نزعها من سياقها الذي جاء بها، أي تجريدها من طبيعتها السياسية التمثيلية، لتتحول إلى طبيعة إدارية صرفة، إضافة إلى مقترحات أخرى، منها الكونفدرالية مع الأردن، وإدارات محلية جهوية، وضم السكان مع تجريدهم من حقوقهم السياسية.
الثابت في كل ذلك، أنه كان محالاً في الأساس أن يتطور مشروع السلطة إلى مشروع دولة كاملة السيادة ضمن السياق الذي جاءت فيه عملية التسوية، من حيث اختلال موازين القوى الفاحش، وبالنظر إلى موقع الضفة الغربية من المشروع الصهيوني، سواء من جهة الإيديولوجيا الصهيونية، أو من جهة القيمة الإستراتيجية للضفة الغربية في تعويض افتقار الكيان الصهيوني للعمق الإستراتيجي.
لم تكن الأخطاء الفلسطينية بمعزل عن ذلك، وإذا كان المقام يضيق عن مناقشة الدور الفلسطيني في تعزيز الاختلال الفاحش في موازين القوى، والدفع بعملية التسوية نحو مآلاتها الراهنة، فإنه يمكن القول إن اعتراف منظمة التحرير بـ"إسرائيل" دون أن تحظى باعتراف مكافئ، وبصرف النظر عن الموقف المبدئي من فكرة الاعتراف هذه، هو الذي وفّر للكيان الصهيوني كل الممكنات للتمدد الاستعماري في أرضنا، وتبييض صورته في العالم، واختراق المجالين العربي والإسلامي، وإعادة صياغة صورة الصراع لصالحه.
لقد ظلت الضفة الغربية، وفق هذه المعادلة أرضًا متنازعًا عليها، بينما أخرج اعتراف منظمة التحرير بـ"إسرائيل" أرضنا المحتلة عام 1948 من الصراع تمامًا، وبالنظر إلى الاختلال الأصلي في موازين القوى، ولأن اتفاقية أوسلو قد فككت الموقف العربي والإسلامي المناهض للكيان الصهيوني، فإن العدو استمر في مشاريعه الاستيطانية بما يجعل من السلطة قنطرة فعلية للاستيلاء على القدس والضفة الغربية، في مفارقة سياسية بالغة العجب.
وبالرغم من هذا الخطأ الأصلي، الذي تعزز بطبيعة البنية السياسية والاقتصادية والأمنية للسلطة على النحو الذي صعّب من إمكانية إدارة مقاومة فاعلة ومؤثرة ومجدية من أراضيها، على خلاف أصل فكرة مشروع السلطة التي تضمنها الحل المرحلي عام 1974، أي أن تكون سلطة مقاتلة، فإن الاستدراك وتعديل المسار ظل قائمًا دائمًا.
صحيح، أنه ونظرًا للطبيعة الاستعمارية الخاصة في الضفة، ولأن الفلسطينيين كانوا قد بدؤوا انتفاضة الأقصى من الصفر، بسبب تدمير بنى المقاومة في حقبة أوسلو؛ فإن انتفاضة الأقصى اتسمت بقدر كبير جدًّا من الارتجال والعفوية، ولكن كان ثمة إمكانية لجعل تلك الانتفاضة نقطة تحول جدّي في المشروع الوطني، لو امتلكت قيادة فتح والسلطة حينها موقفًا حاسمًا من الاستمرار في مشروع التسوية الذي كان قد عبر مرحلتين أساسيتين من مراحل الفشل المحتم.