دولي

عقدة النفق!

القلم الفلسطيني

 

 

شكل استخدام الأنفاق من قبل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة إضافة نوعية لتاريخ الممارسة الثورية الفلسطينية، فقد كان هذا الاستخدام غير معروف فلسطينيا إلا من خلال قراءة أدبيات الثورة الفيتنامية أو من خلال مشاهدة الأفلام الأمريكية التي أظهرت حجم الأذى الذي ألحقته هذه الأنفاق بالجيش الأمريكي.

استخدم الأمريكيون كل أنواع القصف التقليدي والكيماوي ضد الفيتناميين، وخاصة المدنيين، واستحدثوا فرقة متخصصة في الحرب داخل الأنفاق، كل هذا لم يدفع الشعب الفيتنامي إلى الانفضاض عن ثورته ولم يمنعه من الانتصار ولم يمنع الهزيمة عن الأمريكيين، وتحولت الأنفاق إلى أيقونة النصر والتحرير، ولم يترك الفيتناميون الأنفاق كما هي، بل جعلوا منها متاحف للأجيال التي لم تعش تجربة المقاومة والتحرير، حتى يعلموا دور تلك الأنفاق والمقاتلين الذين حفروها وقاتلوا من خلالها في الحرية التي ينعمون بها الآن. استفادت المقاومة اللبنانية من التجربة الفيتنامية وعملت على استنساخها، وتعد الأنفاق أهم سبب في انتصارها خلال حرب عام 2006م، ففي ظل القصف المساحي الكثيف لا يمكن لأي مقاتل مهما كان مشحونا أيديولوجيا ومدججا بالسلاح أن يقاتل في ساحة مكشوفة. لا يقتصر استخدام الأنفاق على قوى المقاومة ضد الاحتلال، ولكن العديد من الدول تستخدم الأنفاق لتخزين أسلحتها الاستراتيجية ولمنشآتها السرية، كما استخدم جيش الاحتلال نظام الأنفاق بطريقة متطورة جدا في الجولان وسيناء، ولكن هذا الاستخدام لم يمنع الجيوش المهاجمة من السيطرة على هذه التحصينات البالغة التعقيد خلال بضع ساعات خلال حرب تشرين _رمضان، وهذا يدل على أن النفسية التي يحملها المقاتل الذي يحفر النفق ويقاتل من خلاله هي التي تجلب النصر وليس العكس. 

كانت المقاومة الفلسطينية تتكبد خسائر فادحة في الأرواح قبل استخدامها للأنفاق، وتجسد ذلك خلال أول مواجهة مباشرة بينها وبين قوات الاحتلال شمال قطاع غزة، وبالرغم من أنها صدت العدوان، إلا أنها تلقت ضربة مؤلمة للغاية ربما تكون من أهم أسباب التحول نحو استخدام الأنفاق بتوسع كبير، فقد قتلت قوات الاحتلال عددا كبيرا من عناصر المقاومة ومن بينهم أبناء قادة كبار فيها. ففي ظل التفوق الجوي وكثافة النيران الأرضية وقوة التدريع الآلية لدى جيش الاحتلال، شكلت الأنفاق قاعدة مكافئة تستطيع المقاومة من خلالها الدفاع والمناورة والتخطيط والهجوم بكفاءة، وشكل تعميم استخدام الأنفاق أهم إنجاز أمني للمقاومة الفلسطينية، فقد حمى هذا الإنجاز الأمني ظهر المقاومة وأخفى استعداداتها ومهد لكل الإنجازات العسكرية التي حققتها والتي من المتوقع أن تحققها مستقبلا. شكل عدوان الاحتلال على قطاع غزة عام 2014م المحك الذي أظهر حجم فعالية استخدام شبكة الأنفاق الضخمة التي بنتها المقاومة الفلسطينية خلال السنوات الماضية، ولقد فوجئ الشعب الفلسطيني والعالم والاحتلال من أداء المقاتلين الفلسطينيين الذين تحصنوا وقاتلوا بشراسة، وقاموا بأسر جنود الاحتلال واقتحام المواقع العسكرية، بالإضافة إلى دور هذه الأنفاق في القيادة والسيطرة من أول يوم في الحرب حتى آخر لحظة منها. شكلت الأنفاق حالة من الرعب للمؤسستين الأمنية والعسكرية للاحتلال، وهذا أهم من أهميتها الأمنية والعسكرية، وبات هاجس الفلسطيني الذي سيخرج من النفق يؤرق المستوطنين في المستوطنات المحيطة بالقطاع فضلا عن الجنود الذين توكل إليهم مهمة اجتياز حدود قطاع غزة. 

وقد لمست من خلال الخطاب الإعلامي للقادة السياسيين والأمنيين لدولة الاحتلال أن لديهم ما يمكن أن نطلق عليه (عقدة النفق) وبالرغم من أنهم استثمروا كثيرا في مجال مواجهة الأنفاق دون طائل، فالملاحظ أن هذا العجز دفع قائد الاستخبارات العسكرية السابق يوآف مادخاي إلى التحدث بصيغة كيدية مضحكة عن الأنفاق بطريقة عززت القناعة لدى الشارع الفلسطيني عن قيمة الأنفاق الجوهرية في ميزان صراعهم لنيل الحرية مع الاحتلال، وتظهر الصحافة الإسرائيلية بتقاريرها ورسومها الكاريكاتورية حجم الرعب واليأس واللا أمان الذي يعيشه المجتمع الإسرائيلي من الأنفاق ومن مقاتلي المقاومة الفلسطينية الذين يتوقع خروجهم له من النفق حتى لو هرب إلى القمر!! فالسلوك الظاهر للمجتمع الإسرائيلي يظهر جزءا مما يخفيه العقل الباطن، وقد رسخت هذه المخرجات -وغيرها-لدى الباحثين أنه في الوقت الذي تسببت فيه أنفاق المقاومة الفيتنامية للأمريكيين بـ(عقدة فيتنام) فإن أنفاق المقاومة الفلسطينية تسببت للاحتلال الإسرائيلي بما يمكن أن يطلق عليه (عقدة النفق).

 

 

 

 

صلاح حميدة

من نفس القسم دولي