دولي

فلنقاوم.. فلنقاوم.. ولنقاوم

القلم الفلسطيني

 

جنود إسرائيليون كثيرون متجمعون، فادي يقود شاحنته، دهسُهم مغرٍ، لمعت الفكرة في رأسه، لم يكن قد قبّل يدي والدته قبل خروجه، ولم يلاعب أطفاله، فقد صحي متأخراً على غير عادته. أطيافٌ من الشهداء مروا في مخيلته كلمح البصر. صوتُ الأم من بعيد يخاطبه قائلاً: لا تخشهَم يا ولدي، ولا تخف العذاب الذي سيلحقونه بنا من بعدك، لا هدم بيتنا ولا اعتقال أفرادنا. لقد أرضعتُك حليب الكرامة يا ولدي. لا تخف؛ الأرض لنا، مهما كانت كثرتهم يظلون جبناء، لا يمتلكون الحق في ذرة من تراب فلسطيننا. اضرب يا ولدي. تتقدم الشاحنة نحو الجنود. يسمع فادي صوت تصفيق يأتيه من وراء الغيم. يهرب الجنود. أجسادٌ كثيرة لجنود وجنديات ممددة على الشارع. لم يكتف فادي.. فما اقترفوه ويقترفونه بحق شعبنا وأمتنا يفوق التخيلات. إنهم مثل شعير البائع، جاؤوا من كل حدب وصوب ليحتلوا أرضاً ليست لهم. سمع صوتاً يناديه من جديد: ارجع بشاحنتك يا فادي؛ فمنهم من أربكه الموقف إلى الحد الذي احتاروا فيه أين يختبئون، فلم يجدوا ملاذاً غير خلف الشاحنة. يسمع شادي هديل أسراب حمام أبيض تطير في السماء الأفقية التكوين، يرى بياضاً لم يعهد صفاءه من قبل. ترانيم فلسطينية ترتلها فلسطينيات لا يراهنّ. أفواج عرائس يلبسن الأبيض، يحطن به. أراد الرجوع بالشاحنة، رجع مسافة قصيرة. فجأة ينهمر رصاصٌ كثيف أصاب رأسه وجسده، دمٌ أحمر قان ينزف من رأسه وبعض مواقع جسده. شعر بنفسه يطير ويطير نحو عالم لم يكن ليتخيله من قبل. 

ابتسامة رضا كست ملامح وجهه الملائكي. كان الوطن الفلسطيني يغرد لحنه الخالد، يتمثل صدىً يتردد في بحرنا المتوسطي الجميل، وفي سفوح جبالنا، وكرملنا، وسهول مرج ابن عامر، وبيارات برتقالنا الحزين. كما رددته سندياناتنا، زيتوناناتنا وأفقنا الفلسطيني الرحب. كانت جوقة من النساء يلبسن أزياء فلسطينية ويرتلن أنغام الشهيد. ما سبق، يمثل المشهد الأخير المتخيل لاستشهاد البطل فادي القنبر، الذي ذاق عذابات الاحتلال، ومرارة سجونه. للعلم؛ الفلسطيني دوماً هو مشروع شهيد، نبتت المقاومة فيه من أجل نيل حقوقه. يقاوم بالسلاح، وإن لم يتوفر فبالحجر والسكين والمولوتوف البدائي، وبالنقافة، والإطار والسيارات والشاحنات والباصات. 

يقاتل بالكلمة، بالرواية والقصة والمسرحية، وبالشعر: "نحن يا أختاه، لا نكتب أشعاراً، ولكنا نقاتل" للشاعر محمود درويش، "ربما أفقد ما شئت، معاشي، ربما أعرض للبيع ثيابي وفراشي، ربما أعمل حجّاراً.. وعتّالاً.. وكناسَ شوارع .. ربما أبحث في روثِ المواشي عن حبوب.. ربما أخمد.. عرياناً.. وجائعًا.. يا عدو الشمس.. لكن.. لن أساوم.. وإلى آخر نبض في عروقي.. سأقاوم! للشاعر سميح القاسم..  لعلي أيضاً أستعير قول شاعرنا الكبير توفيق زياد في مخاطبتي لشعبنا: تحت الاحتلال وشهدائه: أناديكم.. أشدّ على أياديكم.. وأبوس الأرض تحت نعالكم.. وأقول أفديكم.. وأهديكم ضيا عيني.. ودفء القلب أعطيكم.. فمأساتي التي أحيا.. نصيبي من مآسيكم… أنا ما هنت في وطني… ولا صغّرت أكتافي.. وقفت بوجه ظلامي يتيماً، عارياً، "حافي"… حملت دمي على كفي… وما نكست أعلامي… وصنت العشب الأخضر… فوق قبور أسلافي… أناديكم… أشد على أياديكم". للعلم أيضاً؛ كل من عايش الثورة المسلحة، مرّ ولا بدّ يمرّ بأخطارٍ كثيرة، كاد يموت فيها، لذا فالكثيرون من مناضلينا (ومنهم كاتب هذه السطور) يعتبرون أنهم يعيشون الفائض في حيواتهم، فلولا المشيئة الإلهية، ولولا "أن العمر محدود" لفقد الكثيرون منا حيواتهم في فترات سابقة، لذلك لن يهددنا العدو بالقتل ولا بالموت، فالفلسطيني يتمنى أن يموت شهيداً في سبيل أرضه وحقه التاريخي في وطنه الفلسطيني الكنعاني البهيّ الخالد! وأي شرف سيكون هذا؟. بقي القول: إن عملية الشهيد فادي القنبر، هي الرد الطبيعي على كل الذين يحلمون بانتزاع دولة فلسطينية مستقلة عتيدة، من أنياب هذا العدو الشايلوكي القبيح، رغم أن هذا العدو يصرح قادته: بأن لا دولة فلسطينية ستقام بين النهر والبحر، غير دولته الصهيونية، وبالرغم أنه قدم مشاريع قرارات للكنيست الماسوني الصهيوني بضم المنطقة "C" لكيانه، وهي التي تشكل 60% من أراضي الضفة الغربية، والأراضي المتبقية مقام عليها حكم ذاتي للفلسطينيين، وبالرغم من أنه يطالبنا بالاعتراف بكيانه "دولة يهودية"، وبالرغم أنه ما زال يحلم بدولة "إسرائيل الكبرى". 

ردُّ الشعب الفلسطيني أتى ويأتي من خلال بناته وأبنائه، الذين يختزلون النظريات والأيديولوجيات والفلسفة، بخطوة عملية واحدة، عنوانها: المقاومة، المقاومة، ثم المقاومة. لسنا بحاجة إلى جهة تتبنى الشهيد فادي القنبر، فالانتماء لفلسطين يظل أكبر من الانتماء لكل التنظيمات.

 

 

د. فايز رشيد

 

من نفس القسم دولي