دولي
فجاجة المحكمة الدستورية
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 13 نوفمبر 2016
لم أتفاجأ من قرار المحكمة الدستورية الأخير الذي يجيز للرئيس رفع الحصانة البرلمانية عن أي نائب في التشريعي، ولن أتفاجأ إذا أصدرت المحكمة قرارا بحل المجلس التشريعي، لكني لا أخفي أنني مستغرب قليلا من الفجاجة التي تعمل بها المحكمة، ومن عدم مراعاتها لضوابط الصنعة القانونية في صياغة قراراتها وتخريج مواقفها.
لقد كان من الواضح من توقيت تشكيل المحكمة، ومن طبيعة الأشخاص الذين تم تعيينهم فيها ومواقف بعضهم المسبقة المعلنة، خاصة رئيس المحكمة، وارتباطات بعض أعضائها التنظيمية بالأجهزة الرسمية، أن هذه المحكمة جاءت لخدمة أغراض سياسية.
وفي تقديري فإن الهدفين الأساسيين اللذين شكلت المحكمة من أجلهما هما التخلص من المجلس التشريعي، والذي رغم أنه معطل منذ حوالي عشر سنوات، إلا أن وجوده يعطي حصانة لعدد من النواب الذين هم خصوم سياسيون لمن هم في الحكم اليوم، وأيضا يعطي درجة من الشرعية لنظام حكم حماس في غزة. والهدف الثاني هو شرعنة أية إجراءات سوف تتخذ في المستقبل بخصوص انتقال السلطة فمن الواضح أن إجراءات انتقال السلطة الموصوفة في القانون الأساسي والمتمثلة في تولي رئيس المجلس التشريعي الرئاسة لمدة 60 يوماً يجري خلال هذه المدة تنظيم انتخابات قد تكون صعبة في ظل حالة الانقسام الحالية، ومن الأغلب اللجوء إلى طرق بديلة وسيناريوهات مختلفة، ستقوم المحكمة الدستورية بإضفاء صفة الشرعية على هذه الإجراءات مهما كان شكلها.
لذلك وصفها بعض مؤيدي المحكمة بأنها صمام الأمان للنظام السياسي. بل يمكن الذهاب أبعد من ذلك والقول أن المحكمة الدستورية سوف تستخدم للانتقال بالنظام السياسي الفلسطيني من المنظومة الحالية التي يحكمها، بالحد الأدنى، القانون الأساسي المعدل لسنة 2003، إلى منظومة جديدة لا نعرف الكثير عنها.
يمكن لهذا الدور المرسوم للمحكمة أن ينجح، ولو مؤقتا، لو كانت السلطة الفلسطينية مسيطرة بشكل كامل على الضفة الغربية وقطاع غزة، لكن في ظل عدم سيطرتها على قطاع غزة، فإن الأطراف السياسية الأخرى التي جاءت المحكمة لإقصائها قد تلجأ إلى خيارات انفصالية في حال أقدمت المحكمة على اتخاذ قرارات أحادية جذرية فيما يتعلق بوجود المجلس التشريعي أو في آليات انتقال السلطة دون وجود توافق وطني أو انتخابات، الأمر الذي سيؤدي لا إلى انتقال النظام السياسي إلى شكل جديد وإنما إلى تدميره وشرذمته. لكن منبع الاستغراب أن المحكمة تعمل بطريقة فيها كثير من الركاكة والاستخفاف بالعقول، وكنا نتوقع أن تقوم بدورها المرسوم لها بشكل أكثر احترافا وبمظهر مهني أكبر.
كما كنا نأمل أن تنأى المحكمة بنفسها عن صغائر الأمور والخلافات الشخصية القائمة داخل الجهاز القضائي والسلطة التنفيذية. فقد أصدرت المحكمة قرارها التفسيري رقم 1/2016 بخصوص النائب الأول لرئيس مجلس القضاء الأعلى، خرجت فيه عن كل ما هو معروف في القرارات التفسيرية، وأسقطت التفسير على شخص محدد وأصدرت قرارا فرديا، متجاوزة بذلك حدود القرارات التفسيرية. لتتحول المحكمة الدستورية إلى أداة ليس فقط لتجاوز البرلمان، وإنما أيضا لتجاوز السلطة القضائية والهيمنة عليها، ودخلت في مسائل لم تكن بحاجة إلى الدخول فيها. أما القرار التفسيري الأخير بشأن رفع الحصانة، فهو أيضا قرار مستغرب، ويخالف أبسط مبادئ القانون التي درسناها في أول أسبوع من السنة الأولى في كلية الحقوق، وهي أنه من شروط القاعدة القانونية أن تكون عامة ومجّردة، وألا تخاطب شخصاً محدداً باسمه، وإلا فقدت طبيعتها كقاعدة قانونية وأصبحت قرارا وليس تشريعاً.
والمادة 43 من القانون الأساسي التي تمنح الرئيس سلطة إصدار قرارات لها قوة القانون في حالة الضرورة في غير أدوار انعقاد المجلس التشريعي، تتحدث عن قوانين وبالتالي فإن الرئيس في حال عدم انعقاد المجلس يحل محل المجلس في مجال التشريع فقط، وليس في صلاحيات المجلس الأخرى مثل صلاحياته الرقابية وصلاحياته الداخلية والتي من ضمنها موضوع رفع الحصانة عن النواب. وهنا أود الإشارة إلى قرار سابق للمحكمة العليا بصفتها الدستورية استطاعت بذكاء أن تبعد نفسها عن الخلاف السياسي مع الاحتفاظ باحترامها لذاتها ولمهنة القضاء والصنعة القانونية.
فقد تجنّبت المحكمة، في القضية رقم 6 لسنة 2012، إبطال القرار بقانون بشأن رفع الحصانة عن أحد النواب عندما قررت عدم الاختصاص لكنها احترمت نفسها واحترمت مهنة القانون والقضاء عندما أعطت تفسيرا قانونيا معقولا لقرارها بعدم الاختصاص، وأشارت إلى أن القرار بقانون برفع الحصانة عن أحد النواب لا يستوفي الشروط القانونية والفقهية والموضوعية لاعتباره قرارا بقانون، وإنما هو قرار، وبالتالي باعتبارها محكمة تنظر في دستورية القوانين والأنظمة (أو القرارات بقوانين) فهي غير مختصة بنظر هذا القرار الإداري. لقد تشككنا منذ اليوم الأول لتشكيل المحكمة الدستورية من هذه المحكمة، لكن كنا بصراحة نتوقع مستوى أداء أفضل واحترافية أعلى، كما كنا نأمل في قرارة أنفسنا أن تخالف المحكمة توقعاتنا، وأن تفاجئنا بقرارات جريئة توفر الحماية الدستورية للمواطن، وتخلق توازناً بين السلطات يسد جزئيا الفراغ الناجم عن غياب البرلمان. لكن المحكمة سارت وفق التوقعات وبأداء أسوأ وأفقدت نفسها أية مصداقية كان بإمكانها أن تكتسبها. لم يفت الوقت لتصحيح المسار، وما زال هناك مجال لحل هذه المحكمة، والعودة إلى الشعب مصدر السلطات من خلال تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية.
د. عمار دويك