دولي

تجفيف عربي لخيار المواجهة

القلم الفلسطيني

 

صحيح أن الثورة الفلسطينية الكبرى استمرت حتى سنة 1939 أي حتى بداية الحرب العالمية الثانية التي كانت بريطانيا طرفا مركزيا فيها، وكانت معنية ببيع الوهم إلى العرب، ولكن الثورة لم تجد دعما عربيا كافيا لاستمرار اشتعال جذوتها، وذلك في ظل اختلال هائل في موازين القوى لصالح القوة العسكرية البريطانية الرهيبة مقارنة مع الثوار، والذين أبلوا بلاء حسنا، ولكن العدو امتص الضربات الموجعة، وراهن على عامل الزمن من جهة، وعلى الخيار العربي الذي لا يتبنى خيار المواجهة، وكسب الرهان للأسف.

بالتزامن مع إنهاك بريطانيا في حربها مع دول المحور وخصوصا ألمانيا الهتلرية، فإن الحركة الصهيونية أدركت أنها لا بد لها من سند ومعين دولي قوي بدل بريطانيا، وكان الأمريكي هو البديل الجاهز، وهذا البديل زاد في نوع أو ماهية الدعم عن بريطانيا وذلك بالسعي والعمل من أجل إقامة دولة يهودية في فلسطين، وليس فقط وطنا قوميا لهم حسب وعد بلفور البريطاني. أما النظام العربي الرسمي وقتها فإنه غالبا تحالف أو تماهى في سياساته مع الإنجليز، والتزم هامش المناورة الذي أتيح له منهم فقط، ولم يحاول بل لم يفكر -عبر الفلسطينيين-في إزعاجهم وخلخلة جبهتهم في المنطقة، ولكن هل كان يجب على العرب والفلسطينيين التحالف مع هتلر، وهل خطوة الحاج أمين الحسيني بالاجتماع مع هتلر صحيحة؟ الصحيح أن هذا أمر يكثر الجدل واللغط حوله، ولكن المؤكد أن بريطانيا كافأت العرب على وقوفهم معها بتمكين اليهود الصهاينة من فلسطين، أما الحاج أمين فلم يبلور هوية فلسطينية مستقلة عن النظام العربي الرسمي حتى وهو يلتقي بهتلر، لأسباب ذكرتها في المقالين السابقين الموسومين بـ(فلسطين والمؤثرات العربية) و(سياسة عربية ثابتة. ولكن هل حينما نتحدث عن دول عربية مستقلة وقتها نقول الحقيقة فعلا؟ فالاستقلال العربي كان إلى حد بعيد بروتوكوليا صوريا نظرا للنفوذ بل الوجود الفعلي للإنجليز في تلك الدول وتأثيره على قرارها وخيارها، وإبقاء هامش تحركها تجاه القضية الفلسطينية محكوما بالمصلحة البريطانية وهي المصلحة الصهيونية بلا ريب، ولعل هذا كان سببا كافيا لتكوين حاضنة وطنية فلسطينية مستقلة ولو بحدها الأدنى عن معطيات الظرف الموضوعي للدول العربية شبه المستقلة...ولكن هذا لم يحصل للأسف الشديد. 

من الكوميديا السوداء أن الحركة الصهيونية كان بها مجموعات مسلحة إجرامية ترى في بريطانيا عدوا وخصما، أو على الأقل دولة لا يمكن التعويل عليها لتحقيق اغتصاب فلسطين؛ بريطانيا التي منحتهم وعد بلفور، وسهلت هجرتهم، وقدمت العديد من السكان الفلسطينيين إلى المشانق والسجون، وساعدتهم على تهجير مدن وقرى فلسطينية ليقيموا مستعمراتهم مكانها، وأمدتهم بالسلاح المتطور والعتاد، وسهلت لهم إحضار السلاح من وراء البحار، يراها هؤلاء مقصّرة في حقهم، بل حتى متحالفة مع العرب ضدهم...إنهم قوم بُهت!

نجح اليهود الصهاينة في التمدد داخل الساحل الفلسطيني، والجليل والنقب وغربي مدينة القدس، وصار لهم مؤسسات دولة تنتظر الإعلان؛ فلديهم ميليشيات يمكن أن تتحول إلى جيش نظامي-كما حصل فعلا- بورقة موقعة من كبرائهم، ولهم مؤسسات تعليمية متطورة و كيانات اقتصادية، ويأتيهم الدعم المالي، ناهيك عن البشري من الدول الأجنبية، وكما ذكرنا فإن الصهيونية صارت حركة لها حاضنة أمريكية، منذ عهد الرئيس (هاري ترومان) إضافة إلى نفوذ اليهود الروس في الاتحاد السوفياتي آنذاك، مما جعل المشروع الصهيوني مشروعا لكل القوى والدول الكبرى في العالم. 

وفي ظل وضع عربي نعرف ضعفه، واختلاف قادته، واستراتيجيتهم بجعل المواجهة إما خيارا مستبعدا، أو تكتيكا هامشيا، فإن الكفة الصهيونية سترجح، وليس ثمة عاقل يرى غير ذلك، ولكن الحل الأمثل هو استنزاف هذا المشروع ومقاومته بأسلوب حرب العصابات التي تعرفها الشعوب العربية في خضم سعيها للتحرر من الاستعمار الأوروبي، وخبرت تمرّس ورباطة جأش الشعب الفلسطيني وقدرته أيضا على خوضها، في سنيّ الثورات ضد بريطانيا، وليس الحل خوض حرب نظامية موازين القوى فيها مختلة، والسماح بترديد فكرة (سبعة جيوش عربية) في مواجهة مع عصابات متفرقة؛ فهذه العصابات أكثر عددا وعدة وفي ظهرها عسكريا بريطانيا، والولايات المتحدة تتبناها فكريا وسياسيا وماليا! .

 

سري سمّور

 

من نفس القسم دولي