دولي

فهم الاحتلال... شرط فهم التطبيع والمقاطعة والمقاومة

القلم الفلسطيني

 

 

منذ احتلال العراق عام 2003، اشتعلت في المنطقة العربية حرب باردة بين محورين درج الإعلام على تسميتهما بمحوري المقاومة والاعتدال. وعندما أشعل التونسي، محمد البوعزيزي، نفسه معلنا انطلاق الربيع، ارتفعت الآمال ببروز طريق ثالث غير هذين المحورين، طريق لا يجعل النضال لأجل فلسطين مناقضا لمطلب الديمقراطية، وطريق لا يجعل مطلب الديمقراطية مشروطا بالتخلي عن فلسطين.

 إلا أن هذه الآمال حطمها هذان المحوران، حيث أدى الربيع العربي إلى تحويل تلك الحرب الباردة إلى أخرى أكثر حرارة بكثير. في خضمّ هذا الصراع، تنشط النخب الفكرية والأجهزة الإعلامية التابعة لهذا المحور وذاك، في إعادة تعريف المفاهيم، واستغلال القيم، وتوظيف ما هو ثمين وغال (كالقضية الفلسطينية) في قلوب وعقول الشعوب العربية، لخدمة مصالح وغايات هذا المحور وذاك. وهذا الظرف هو ما يجعل الواحد منّا، نفسه، مندهشا من حجم التشويش وانعدام الوضوح في قضايا ومفاهيم يفترض بها أن تكون دوما واضحة. 

لهذا السبب سأقوم في هذا المقال بشرح ثلاثة مفاهيم: التطبيع، والمقاطعة، والمقاومة. وسأقوم بذلك عن طريق إعادة الاعتبار لمعنى "الإحتلال"، ذلك أن نسيان أن القضية الفلسطينية في جوهرها هي قضية احتلال استيطاني، وليست نزاعا حدوديا، هي الخطوة الأولى نحو انعدام الوضوح. لنبدأ القصّة من أولها: كان هناك شعب عربي فلسطيني يعيش على أرض فلسطين. بعد ذلك، جاءت مجموعة من الصهاينة الأوروبيين، بالتعاون مع الدول الأوروبية، إلى أرض الفلسطينيين واستعمروها، وطردوهم منها، وأسسوا عليها عام 1948 دولة لهم سموها "اسرائيل". الفلسطينيون الآن إما يعيشون كلاجئين في العديد من دول العالم، أو تحت الاحتلال الصهيوني. 

فالقضية في جوهرها هي اغتصاب أرض وتشريد شعب، وليست قضية دينية (فالصهيونية حركة علمانية، والقدس لم تُحتَل إلا عام 1967). الآن، بماذا يختلف الاحتلال الصهيوني عن غيره من أنواع الاحتلال؟ الجواب: أنه احتلال استيطاني. فالاحتلال أنواع: هناك احتلال لأغراض سياسية واقتصادية، يكون فيه الأجنبي هو المسيطر سياسيا بشكل مباشر على شعب ما، ويدخل في هذا التصنيف الاحتلال الأميركي للعراق.… وهناك احتلال استيطاني. 

في الاحتلال الاستيطاني يقوم الأجنبي بتأسيس كيان سياسي له ولشعبه فوق أرض ما على حساب الشعب الأصلي. في النوع الأول، مهما طالت مدة إقامة المحتل، فهو يعود من حيث جاء، في حين في النوع الثاني، يأتي المحتل الاستيطاني ليبقى. في النوع الأول المحتل يعمل لمصلحة بلد بعيد، في حين أن المحتل الاستيطاني يعمل لمصلحة الكيان الاستيطاني الجديد الذي قام بإنشائه. في النوع الأول، المحتل يستغل الشعب الأصلي، في النوع الثاني، المحتل يستبدل الشعب الأصلي ويلغيه. 

هذه التمييزات التحليلية تجعل ظواهر مثل التطهير العرقي للسكان الأصليين، السياسات العنصرية اتجاههم، الفوقية، الإقصاء، ضرورية لبقاء الاحتلال الاستيطاني، في حين أنها ليست ضرورية في النوع الأول من الاحتلال الذي لا يجد مانعا -كما كان يفعل الاحتلال البريطاني -من تأهيل نخبة محليّة وتوظيفها لتخفيف أعباء السيطرة على هذا البلد لصالح مركز الإمبراطورية، أو حرصه على الكدح رخيص الثمن، الذي يمكن استغلاله في المستعمرات. إن الأمثلة على الاحتلال الاستيطاني ليست محصورة بالاحتلال الصهيوني، بل هناك أمثلة أخرى… كالاحتلال الفرنسي في الجزائر، والاحتلال الاستيطاني في جنوب أفريقيا. 

من هذا التحليل، نستطيع استنتاج أن الانتصار بالنسبة إلى المحتل الاستيطاني يكتمل عندما يتم الاعتراف به -من الشعب المُحتَل -باعتباره "شعبا طبيعيا" على الأرض، التي استولى عليها وطرد شعبها منها. أميركا مثال على هذا الانتصار للمحتل الاستيطاني الذي استطاع أن يبيد ويطهّر ويخضع السكان المحليين، حتى أصبح وجوده هناك "طبيعيا". النتيجة الأولى، إذن، من هذا الكلام هي أن التطبيع-أي الاعتراف بالصهاينة "كشعب طبيعي في فلسطين"-يعني المساهمة في انتصارهم. إن استطاعت إسرائيل كسب اعتراف العالم أجمع، فهذا يكسبها قوّة كبيرة، لكنه لا يجعلها منتصرة. انتصار الصهيونية يتحقق فقط عندما يعترف بها العرب كدولة طبيعية، ذلك أن العرب هم الخاضعون للاحتلال. لهذا يكون التطبيع خيانة وإعلان استسلام، ولا يمكن النظر إليه كتكتيك أو مناورة سياسية. من هذا التحليل أيضاً، يتبيّن أن واجبات العرب تختلف عن واجبات غيرهم، لأن الأرض المسلوبة عربيّة، ولأن الشعب المهجّر والمنتهكة حقوقه عربيّ. فكون قضية فلسطين قضية عربية يعني أن العرب ليسوا فيها مراقبين محايدين، أو طرفاً ثالثاً، بل هم الطرف الخاضع للاحتلال الاستيطاني، وبالتالي واجباتهم ومسؤولياتهم تختلف عن واجبات ومسؤوليات غيرهم.

فإن كان أقصى ما يراد من غيرهم هو المقاطعة، فإن هذا الواجب هو أقل ما يراد من العرب. والمقاطعة هي كل نشاط يهدف لنزع الشرعية وعزل العدوّ الصهيوني سياسيا وثقافيا واقتصاديا وغيره. إن انتشار ثقافة وحركة المقاطعة أمر حميد وضروري، لكن يجب التذكير دائما بأنه أقل واجبات العرب. أما أعلى واجباتهم فهو المقاومة. والمقاومة لا تنحصر فقط في الأنشطة العسكرية، بل تشمل كل نشاط -عسكري أم سلمي أم اقتصادي -لا يهدف فقط لنزع الاعتراف والشرعية عن الصهاينة بل في هزيمتهم وإنهاء احتلالهم. لهذا هناك تداخل بين المقاطعة والمقاومة، حيث أن الأولى يمكن أن تتحول إلى الثانية، لأنها تتضمن نوعا من الإضعاف غير المباشر. صحيح أن شعارات مثل المقاومة ونصرة فلسطين تمت الإساءة لها وتلطيخها بالدماء البريئة من قبل الدول التي تبنتها، وليس آخرها إلا ما يدعى بمحور وحركات المقاومة، وهذه الظاهرة دفعت بعض العرب للكفر بهذه الشعارات. لكن أليس هذا قدر كل الشعارات النبيلة؟ إن كان استغلال الظلمة للشعارات النبيلة مبررا للتخلي عنها، فيجب التخلي عن كل شعار وقيمة نبيلة: كالحرية والعدالة والرفاه، فهذه كلها تم استغلالها لأعمال الشر.

 

 

سلطان العامر 

من نفس القسم دولي