دولي
بين دمعة بيريز ودموع عباس
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 03 أكتوبر 2016
أمام شاشة بلازما ضخمة، جلس الرئيس الصهيوني السابق، شيمون بيريز، بعد ظهر أحد أيام أكتوبر/ تشرين الثاني 2012، في قاعة بإحدى القواعد التابعة لجهاز المخابرات الإسرائيلية الداخلية (الشاباك)، وسط فلسطين المحتلة. كانت إسرائيل، في تلك الأثناء، تشن حملة "عمود السحاب" على قطاع غزة، وجاء بيريز ليشهد إحدى عمليات التصفية التي كان ينفذها "الشاباك" في أثناء الحرب.
فجأةً، ظهرت على الشاشة مجموعة من عناصر الشرطة الفلسطينية المدنية، وهم يصطفّون لأداء صلاة العصر في محيط مركز الشرطة الذي يعملون فيه، شرق خان يونس، جنوب قطاع غزة. وبعد أن شرعوا بأداء الصلاة، صدرت الأوامر للطاقم الذين يدير منظومة الطائرات بدون طيار الهجومية بإطلاق عدة صواريخ على المجموعة، فقتلوا على الفور. ومع أن أفراد الشرطة كانوا يؤدون خدماتٍ مدنيةً، ولا علاقة لهم بأي عمل مقاوم، إلا أن بيريز أبدى إعجابه بالعملية، وشكر "الشاباك" قبل أن يعود إلى استئناف مهام عمله في ديوانه في القدس المحتلة. كان بيريز، في هذه الحادثة التي كشفت عنها صحيفة يديعوت أحرنوت بعد أسبوع على وقوعها، يُنظر إليه أيضا "شريكاً للسلام" مع العالم العربي، مع أنه لم يحدث قط أن دلّ سلوكه على أنه كذلك. فعلى الرغم من أنه لم تكد تمض بضعة أشهر على حصوله على جائزة نوبل للسلام، إلا أن بيريز، كرئيس للوزراء ووزير الحرب، لم يتورّع عن تنفيذ مجزرة قانا عام 1996، لأنه اعتقد أنها ستحسّن من فرصه بالفوز في الانتخابات النيابية التي جرت بعد أشهر.
بالنسبة للعرب، كان الأجدى أن يتحوّل موت بيريز الذي عكست حياته السبيل الذي سلكته الحركة الصهيونية في بناء مشروعها وتكريسه، إلى مناسبةٍ لاختبار الأدوات التي استخدموها في مواجهة هذه المشروع، بدل الاستغراق في كيل ثناءٍ لا يستحقه هذا المجرم، وهجاء لن يضرّ ما صنعته يداه، فلا يمكن للمرء أن يتجاهل قائمة "الإنجازات" الهائلة التي حققها للمشروع الصهيوني. فعندما كان عمره 31 عاماً، وفي أثنا موقعه وكيلاً لوزارة الحرب، تمكن بيريز من تدشين البرنامج النووي الإسرائيلي، من خلال توظيف علاقاته الشخصية مع كبار المسؤولين الفرنسيين، وهو البرنامج الذي مكّن إسرائيل من إنتاج 200 رأس نووي، كما كشف أخيراً وزير الخارجية الأميركي الأسبق، كولن باول.
ومن موقعه ذاك، بنى بيريز مجمع الصناعات العسكرية، وبعد ذلك مجمع الصناعات الجوية، بعد أن دشّن في الوزارة "مركز الأبحاث والتطوير"، بغرض تطوير منظومات التسليح. ولا حاجة للتذكير بأن مجمعات الصناعات العسكرية والجوية لا تسهم في تعزيز المنعة العسكرية لإسرائيل فقط، بل إنها تلعب أيضاً دوراً مهماً في تعزيز الأوضاع الاقتصادية، لإسهاماتها الكبيرة في التصدير. وعشية حرب 56، وكان عمره 36 عاماً، تمكّن من إقناع كل من فرنسا وبريطانيا بمشاركة إسرائيل في الحرب على مصر. وبعد فرط عقد التحالف مع فرنسا، لعب دوراً في إرساء التحالف مع الولايات المتحدة.
ولما كان وزيراً للحرب بين 1974 و1977، أمر بيريز بتنفيذ عشرات العمليات الخاصة وعمليات التصفية التي استهدفت المقاومة الفلسطينية. ومن الموقع نفسه، كان من القلائل في حكومة إسحق رابين الأولى الذين تحمسوا للمشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، حيث يعتبره البروفيسور والجنرال آرييه إلداد من أبرز قادة اليمين الصهيوني، وأنه "أبو المشروع الاستيطاني"، وقال إن المستوطنات التي أقامها بيريز هي التي تجعل من المستحيل الآن إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية ("معاريف"، 25-9). وطوال هذه الفترة، لعب بيريز دوراً مهما في بناء علاقات سرية مع دول عربية، وذلك قبل حقبة اتفاقات التسوية، ولا سيما النظام في عمّان. وعند تشكيل حكومة الوحدة الوطنية عام 1984، حقق بيريز ما يشبه "المعجزة"، وأخرج إسرائيل من أخطر أزمة اقتصادية مرّت بها، بعد أن وصل التضخم المالي إلى 400%. تسنّى لبيريز تحقيق هذه "الإنجازات"، إلى جانب عوامل أخرى، بفعل وجود نظام سياسي قام على مؤسسات حكمٍ فاعلة، توجهها منظومة أهداف؛ بحيث يتم تقييم كفاءة هذه المؤسسات ومحاسبة القائمين عليها، بناء على قدر ما حققت من هذه الأهداف أو قصرت في ذلك.
مؤسسات تربط الاصطفاء للمواقع بالكفاءة، حيث يكون المعيار مصلحة "الدولة"، وليس مصالح الحكام. من المهم أن يتم التصدّي لأولئك العرب الذين تملقوا الصهاينة في تأبين بيريز، والمشاركة في جنازته، وخلع الأوصاف الإيجابية عليه، لكن الأكثر أهمية أن تعي الأمة طابع المسار الذي عليها أن تسلكه، من أجل تغيير مكانتها في الصراع مع الكيان الصهيوني، بعدما تخرج من محناتها الحالية.
وإن كان ثمّة أحد مصرّاً على التعاطي، وفق معايير عاطفية في تقييم الذات والآخر، فعلى الأقل عليه أن يقتفي أثر بيريز في ذلك. وثق موقع "وللا" الإسرائيلي محمود عباس وهو يبكي في أثناء مشاركته في تشييع بيريز، وهو الذي لم يشهد قط جنازة شهيد فلسطيني. لكن بيريز قال قبل خمس سنوات، بمناسبة مرور 35 عاماً على عملية عنتيبي التي أمر، وكان وزيراً للحرب، بتنفيذها عام 1976 لتحرير طائرة إسرائيلية اختطفت إلى العاصمة الأوغندية، إن المرّة الوحيدة التي ذرفت عينه دمعةً كانت عندما أخبروه بمقتل قائد وحدة سييرت متكال، العقيد يوني نتنياهو (شقيق رئيس الوزراء الحالي)، والذي قاد عملية تحرير الرهائن. ولا حاجة للتذكير بأن "سييرت متكال" تتولى تنفيذ عمليات التصفية والاغتيال التي تطاول قادة المقاومة الفلسطينية، وكل من ينظر إليه خطراً على إسرائيل. .. شتّان بين محفز دمعة بيريز ودموع عباس.
صالح النعامي