دولي

كبارهم يموتون.. وصغارنا لا ينسون

القلم الفلسطيني

 

 

تُنسب العبارة الشهيرة "الكبار يموتون، والصغار سينسون" إلى ديفيد بن غوريون، والمذكور أخيراً غني عن التعريف، فهو قائد انتصارات الصهاينة على العرب عام 1948م، والتي أفضت إلى قيام الدولة المارقة "إسرائيل"، وهو كذلك أول رئيس وزراء إسرائيلي بين عامي (1948-1963م) باستثناء سنتي (1953-1955م)، إلى جانب دوره الفاعل والكبير في حربي 1956 و1967م.

اختصرت تلك العبارة الرؤية الصهيونية تجاه شعبٍ يجهله الصهاينة، فاعتقد دافيد بن غوريون، والاسم يعني هنا "ابن الشبل"، بعد أن أدخل " دافيد غرين" تعديلاً بسيطاً على اسمه حتى يتناسب مع طموحه المستقبلي، أعتقد أن الذاكرة الفلسطينية ستُبتر مع انتهاء جيل النكبة الفلسطينية الأول، لكن ذكاء المجرم لم يسعفه لإدراك أن الذاكرة طويلة، والجذور عميقة في أرض فلسطين، وبناءً على تلك الحقيقة ذهب بن غوريون اليهودي البولندي، وبقيت فلسطين لأبنائها جيلاً بعد جيل.

تتعرض ذاكرة الدولة المارقة "إسرائيل" لهزّة تلو أخرى، بعد فقدان مؤسس أو ملك من ملوكها، يتمثل ذلك في أنَّ تلك الدولة التي تأسست على مجموعة من الأساطير الهشة باتت غير قادرة في غياب مؤسسيها الأوائل على الصمود في مواجهة الذاكرة الفلسطينية المفعمة بقوافل الشهداء والمجازر والمعارك. فذاكرتنا تكسب الرهان دائماً، أمام شريط سينمائي قصير من ذكريات الصهاينة في أرضٍ اغتصبوها من أصحابها، وبنوْا عليها كياناً من الوهم، سرعان ما سينتهي على أيدي "الصغار" الذين أفشلوا نبوءة بن غوريون، فلم ينسوا ولم يخونوا العهد مع أجدادهم الذين هُجّروا من أراضيهم المحتلة عام 1948م، فكانت تلك الأجيال الذي جرّعت "إسرائيل" مرَّ احتلالها لأرضنا ومقدساتنا، ولا تزال الدولة المارقة في مواجهةٍ من مسافة الصفر مع جيلٍ لا يعرف التراجع أو الانكسار.

بعد غياب شارون عن المشهد "الإسرائيلي" عام 2006م، دخلت "إسرائيل" في مرحلة جديدة من الإحساس بالنهاية؛ لأنَّ المؤسسين الذين تفقدهم يرحلون، وقد حملوا معهم أحلامهم العابرة، ودفاتر جرائمهم المليئة بلعنات التاريخ، كانوا يحلمون بدولة آمنة تتربع على أضلاع العالم العربي، فانصرفوا ودولتهم تتآكل وتتراجع. حاولت قيادة الاحتلال تغييب القيادات الفلسطينية المؤثرة، فاعتقلت، أبعدت واغتالت الآلاف من خيرة أبناء فلسطين، وأغراها غرورها بأنَّ غياب تلك القيادات سيجعلها قادرةً على حكم شعبٍ غزير بعطائه، ينجب بطلاً جديداً في كلِّ يوم.

للوهلة الأولى يبدو فقدان قائد فلسطيني لا يُعوَّض، لكن التجربة على مدار عقود الصراع مع العدو الصهيوني، أفادت بقدرتنا على مواصلة التضحية، خلف قادة أكفاء على قدرة عالية من الذكاء والعطاء.

في المقابل، يمرّ العدو الصهيوني بالتجربة ذاتها؛ فقدان بعض قياداته الكبيرة، ولكنه الغياب بالمرض أو الموت، وهو أقل ألماً مما نعانيه نحن بتغييب قياداتنا بالاغتيال والتصفية الجسدية. نستذكر حين نراهم يسقطون ورقة وراء أخرى من تلك الشجرة الصفراء في خريف الكيان، كلَّ قادتنا الذين فقدناهم في سنوات التحرير والأمل. يتجرع الكيان إذن ألم غياب مؤسسيه الأوائل، ويترنح بين يديْ قادة هواة، تعوزهم الخبرة والاحتراف، والقدرة على التعامل مع واقع أصبحت فيه "إسرائيل" محاصرةً من كل جانب، على الرغم مما يبدو أنها تحاصر الجميع، وتطبِّع مع القريب والبعيد. آخر ملوك "إسرائيل" الذين غيبهم الموت، كان شمعون بيرس، الرئيس التاسع "لإسرائيل"، مهندس البرنامج النووي الإسرائيلي، ومهندس اتفاقية أوسلو، والحائز إلى جانب رابين وعرفات، ورغم عناقيد الغضب، وغيرها من الجرائم النكراء بحق شعبنا الفلسطيني، والشعوب العربية، على جائزة نوبل للسلام.

يفقد الكيان بذلك واحداً من أخطر مجرميه، فكيف سيؤثر ذلك عليه؟ وهل لا تزال "إسرائيل" قادرة على إنجاب قيادات بحجم من تفقدهم؟ أم أن زمن القيادات التاريخية ولّى أمام دولة المؤسسات القوية، التي تضاهي أعلى الدول إدارة وتسليحاً وقدرة على المشاكسة في العالم؟! 

 يونس أبو جراد

من نفس القسم دولي