دولي
المطبّعون إذ يتزلّفون الهزيمة الثقافية
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 16 أوت 2016
هناك دعاة تطبيع على المحور السياسي، لكن من هم أشد خطراً على الأمة أولئك الذين يطبّعون على المحور الثقافي. هؤلاء هم الذين يحاولون تسوية الأرض وتمهيدها لمرور القرارات السياسية الخاصة بالتطبيع. لهم أدوات كثيرة في هذا المجال.
أولى أدواتهم هي نشر ثقافة الهزيمة، بدون ذلك لا يستطيعون تبرير هذا الانحدار والتهافت نحو الاحتلال ومستوطنيه. وقد يصل بهم الأمر حدّ نفي وجود ثقافة عربية، كما فعل أدونيس قبل سنوات قليلة حين نعى الثقافة العربية، لينال قسطاً وافراً من التصفيق. لقد بدا متسولاً للتصفيق لا مثقفاً قرأ التاريخ، وعرف كبوات كثيرة عرفتها الأمة خلال تاريخها.
وصل الانحدار في مواقف بعض المثقفين العرب أن أوصت وزيرة خارجية الاحتلال السابقة تسيبي ليفني بنشر مقالات عدد من الكتاب العرب على الموقع الرسمي للوزارة باعتبارها "مقالات تمثل وجهة النظر الإسرائيلية في العالم العربي". وتضمّنت التوجيهات نشر المقالات التي تنتقد حركة حماس، ولم يتمالك رئيس الوزراء الصهيوني إيهود أولمرت نفسه آنذاك عندما تُرجم له مقال لأحد هؤلاء الكتاب، فقام عن كرسيه واقترح ترشيحه لأعلى وسام في الكيان الصهيوني.
يمكن ملاحظة أن معظم هؤلاء الكتاب الذين يحاولون عكس هزيمتهم النفسية على الواقع المحيط بهم هم من جذور فكرية يسارية (كما المحافظون الجدد في الولايات المتحدة)، عاشوا ما ظنوا مجد الاتحاد السوفياتي ثم سقوطه الدراماتيكي، وهذا ما أحدث لديهم صدمة نفسية، ولّد عقدة خوف دائمة من المنتصر، أي الرأسمالية والغرب بنظرهم، ومن ضمنه ربيبته (إسرائيل). لكن ورغم نزوعهم المعلن نحو الليبرالية، إلاّ أنهم احتفظوا من العهد السوفياتي بمعاداة الحريات، وضرورة البقاء على ارتباط مع الخارج كشرط ضروري للبقاء. ولأنهم يسعون لنشر ثقافة الاستسلام، فإنهم عارضوا ما اصطُلح على تسميته بـ"الربيع العربي"، لأنه نقيض للهزيمة.
"ثقافة الاستسلام" التي يحاول المطبّعون نشرها تستحضر الهزائم الماضية لتبرّر الهزائم المقبلة، وتعرض المحطات التاريخية البائسة ليس لاستخلاص العبر والدروس؛ بل للقول إن المشكلة تاريخية ولا مفرّ منها، وأن الهزيمة قدر في الأمّة لا رادّ له، وما دامت الحال هذه فلا مناص من التخفيف من وقعها باتفاقيات فيها كل الإذعان والرضوخ.
عندما يجري التحذير من الاختراق على الجبهة الثقافية، فذلك لأنها القلعة الأخيرة والأهم، المنيعة في وجه كل محاولات الاختراق. والقوّة لم تعدّ في زماننا القوة العسكرية فقط، بل أصبحت القوة الثقافية هي أبرز مظاهر القوة، لأنها تُغيّر العقل والسلوك قبل أن تستولي الشركات الكبرى، أو الجيوش العظمى، على الخيرات والموارد. إن الحروب اليوم تُخاض بشكل أساسي على الجبهة الثقافية.
استضافت إحدى الفضائيات اللبنانية طفلاً لم يبلغ العامين من عمره، برفقة أبيه. سأله أبوه عشرات الأسئلة عن عواصم البلدان، أجاب ببراءة طفل نابغة أسعد الجمهور. سأله عن عاصمة فلسطين أجابه "القدس". سئل عن عاصمة دولة "إسرائيل"، فاستعار الطفل الكثير من الرجولة وأجاب "بابا ما في شي اسمو "إسرائيل"، هاي فلسطين". الطفل يعيش في أصقاع كندا، وُلد وعاش هناك. بأحرف بالكاد نفهمها، يردّ هذا الطفل على كل المطبعين المتمنطقين المهزومين.