دولي

هدية عباس الصهيونية للملك سلمان

القلم الفلسطيني

 

 

تُخبرك وكالتا الأنباء الفلسطينية (وفا) والسعودية (واس) بأنّ الملك سلمان بن عبد العزيز تلقّى من الرئيس محمود عباس هدايا تذكارية، في اجتماعهما الأحد الماضي في جدّة. وتراها ثلاثاً في الصور المنشورة: رسمٌ بإطارٍ مذهّبٍ لمشهدٍ من القدس وقبة الصخرة، وصورتان، إحداهما بإطارٍ مذهّب، لصفحتين أولييْن لعدديْن من جريدة بالستاين بوست. تفتّش في الصحف والمواقع الإلكترونية الفلسطينية عن تفسيرٍ لهذه الهدية، فلا تسعفك الشبكة العنكبوتية بغير مفرداتٍ تقول إن هذه الهدايا "تمثّل بعضاً من تاريخ فلسطين". يزدادُ عجبك (وغضبك تالياً) من فداحة القصة؛ ذلك أن "بالستاين بوست" صهيونيّة المنشأ والمحتوى والمسار، وقد سبق صدورَها بالإنجليزية نشأةُ دولة الاحتلال على أرض فلسطين، وهي تمثّل بعضاً من تاريخ عصابات النهب والطرد والقتل التي ألحقت بفلسطين وشعبها النكبة المعلومة. كانت باسمها هذا (Palestine Post) منذ العام 1932، بعد أن كان اسمها (Palestine Bulletion)، لمّا أسّسها الأميركي اليهودي الصهيوني، جاكوب لانداو، مع شريكٍ له يهودي أوكراني محاربٍ في واحدةٍ من العصابات الإرهابية، لتكون نشرةً بالإنجليزية في القدس، في 1925. وقد صارت باسمها الراهن "جيروزاليم بوست" (Jerusalem Post)، في 1950، أي بعد النكبة وإعلان دولة "إسرائيل" التي بشّرت بها، ودعت إلى قيامها "وطناً قومياً لليهود". هذه المعلومات متوفرة في المراجع الميسورة، ومشهورةٌ بين دارسي الصهيونية التي يُفترض أن محمود عباس حائزٌ على الدكتوراة فيها من جامعةٍ في موسكو، وترد تفاصيلها في موسوعة عبد الوهاب المسيري "اليهود واليهودية والصهيونية". لم يُنشر ما شرحه الرئيس الفلسطيني لمضيفه الملك سلمان عن الجريدة الصهيونية تلك، وهو يهديه صفحتيْن من نسختين منها. هل حدّثه عن خبرٍ فيها يخصّ المملكة، في تلك السنوات البعيدة؟ لا أعرف. وليس هذا مهماً، وإنما المهم فداحةُ أنْ نرى رئيس فلسطين يُهدي ملكاً عربياً مأثوراً صهيونياً، فيما بدائعُ الفلسطينيين وفنونُهم لا تُحصى. وثمّة أيضاً الفداحة في أن الواقعة تُرينا انحطاطاً ثقيلاً، يسقط فيه الأداء الرسمي الفلسطيني، ولا تزيّد في الجهر، هنا، أن الذي أقدم عليه محمود عباس يشتمل على أرطالٍ من احتقارٍ بيّن للثقافة الفلسطينية، ربما تفسّره قلة معرفة جهاز الرئاسة الفلسطينية بالحرام والحلال بشأن الصلةِ الواجبة بتاريخ فلسطين ووجدان شعبها. ولأن الأمر كذلك، فإنّ التباهي بصحيفةٍ صهيونيةٍ، معلومة العداء للأمة، عندما يُهدى مقطعٌ من أرشيفها إلى ملكٍ عربي، أمر يؤشر إلى شناعة الحال الفلسطيني كله. لا يكفي الانقسام المخزي، ولا حبسُ المقاومين، ولا الصلاتُ الأمنية المتواصلة مع العدو المحتل، فثمّة في القاع الفلسطيني غير هذا أيضاً، من لون ما رأينا في قصر الملك سلمان في جدّة. إنْ كان في الرئاسة الفلسطينية موظفون ورّطوا عباس، عن جهلٍ أو بلاهةٍ أو نقصان علمٍ، فذلك كله يؤكد مستوىً هابطاً يحوزه هؤلاء، عندما لا يعرفون أن معركة سرد روايةِ نكبة فلسطين وكتابتها وإشهارها واحدةٌ من مستويات مواجهةٍ مع العدو المحتل لن تتوقّف، وكذلك عندما لا يعرفون أن للرمزيات موضعها المتقدّم في تفاصيل هذه المعركة وصليل احتدامها. أمّا وأن هؤلاء (وغيرهم) لا يعرفون هذه البديهية (وغيرها)، فإنهم لن يقعوا على الهول الذي في هديةٍ من طراز التي قدّمها محمود عباس لملك السعودية، ما يعني أننا أمام طورٍ متقدّم من الاعتلال الفلسطيني الذي لا تُراد له مداواة. وأن يقتصر الاشمئزاز من نازلة "بالستاين بوست" في قصرٍ ملكي في العربية السعودية على تعليقٍ فلسطيني أو اثنين، وأنْ تتعامى رئاسة دولة فلسطين عن وجوب أن توضح ما قد يكون التباساً في أمر تقديم عبّاس تلك الهدية البائسة، فذلكما أمران يعنيان أن اعتداءً جسيماً أوقعته رئاسة منظمة التحرير والسلطة الوطنية وحركة فتح على تاريخ فلسطين، وهذا أقلّ نعتٍ يمكن بسطُه بشأن اعتبار "جيروزاليم بوست" تمثل بعضاً من هذا التاريخ، لمّا كان اسمها "بالستاين بوست". 

 معن البياري 

من نفس القسم دولي