دولي

لماذا أعلنت القسام عن الجنود الأربعة؟

القلم الفلسطيني

 

 تتصدر قضية الأسرى في أولويات حركة المقاومة، لتضمنها أبعادًا متعددة شديدة التضافر فيما بينها، وذات أهمية خاصة في رفع النضال الفلسطيني، وتعزيز صمود المقاوم في الميدان، من جهة منطلقات النضال نفسه، ومن جهة حاجة النضال العملية، فالإنسان في الأساس هو محور الصراع، أو جوهر التدافع (الحرية، العبودية) بما هو إنسان مكرم انبثق إلى الوجود حرًّا، ولا يتفاضل بأي اعتبار سوى اعتبار التقوى "إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم"، أي اعتبار الاقتراب أكثر من تحقيق الكرامة الآدمية "ولقد كرَّمنا بني آدم"، أو تحقيق الصلاح في الأرض "وما كان ربُّك ليهلك القرى وأهلها مصلحون". هذا المنطلق ينبغي أن يكون ركيزة في النضال الفلسطيني، نظرًا لسمات الاحتلال الصهيوني، الذي يقوم في أصله على ادعاءات عرقية عنصرية، حتى وإن كانت مختلقة، ويمارس تعاليًا عنصريًّا بغيضًا، يتخذ في أدواته شكل العدوان السافر والسرقة المكشوفة، وحتى الدوافع القومية والدينية للنضال الفلسطيني لا تنفك عن هذه الركيزة ولا تتعارض معها، ومن هنا فإن تحرير الفلسطيني من سجون الاحتلال، مهمة أساسية تستند في أصلها إلى هذه الركيزة، وفعل نضالي يواجه عنصرية العدو وتعاليه البغيض، والتحام تراحمي بالشعب الثائر، يفي فيه المقاتل لوالدي الأسير وزوجه وأطفاله كما يفي لرفيقه في القتال، يشدّ به من لحمة الشعب على قضية النضال. لا يتصل المقاتل آسر جندي العدو بزميله في الأسر فحسب، فيرفع عنه بأمل الحرية وطأة السجن الثقيل، ويؤنسه بوفائه المستمر في غربته البعيدة، ويضرب إليه وشيجة وثيقة من استمرار الوصل، فيظل الأسير جزءًا من المعركة في الميدان في اتصاله الوثيق هذا بإخوانه، ولكن المقاتل آسر جندي العدو بالإضافة إلى ذلك، يشدّ من أزر نفسه، ويقوي من صفّ المقاومين، الذين باتوا يعلمون يقينا بأن خلفهم من يركب المستحيل لفكّهم من الأسر في حال سجنهم. ويكفي للدلالة على أهمية هذا العامل في تمكين الصف المقاوم، إن من جهة القدرة على تحقيق الإنجاز، أو من جهة القدرة على كسر إرادة العدو، أو من جهة الاطمئنان إلى إصرار المقاومة وسعيها الدائم لتحقيق حرية أسرى الشعب، بما فيهم أسرى المقاومة؛ ما حققته المقاومة في صفقة وفاء الأحرار "صفقة جلعاد شاليط" حينما أخرجت مقاومين محكومين بالمؤبدات، بعضهم بعشرات المؤبدات، ولم يكن قد مضى على اعتقالهم عشر سنوات، في كسر واضح لإرادة الطرف الأقوى ماديًّا في الصراع، وفي إهانة بالغة لمعاييره المتبجّحة، وفي انتصار ظاهر للطرف الأضعف ماديًّا في الصراع، فالمقاوم الذي ينجز، يعلم أن إرادة العدو لن تكون هي الغالبة في حال أسره، وبأن خروجه من الأسر سيكون أمرا واقعا. وهي تكشف عن صور جنود العدو الأربعة المفقودين، ويُرجح بأنهم كلهم أسرى لديها، لا تذكر كتائب القسام، بهذه الأصول التي تنهض عليها مقاومتها، ويقوم عليها سعيها في أسر جنود العدو وتحرير أسرى شعبنا، فحسب، ولكنها تدرك أيضا ضرورة التأكيد على أهمية ثباتها على هذا الخط، منذ أسر الرقيب آفي سابورتس في 17 شباط/ فبراير 1988، أي بعد تأسيس حماس بشهرين فقط، ومرورا بالعديد من عمليات الأسر الناجحة والفاشلة طوال عقد التسعينيات، وصولاً إلى جلعاد شاليط ثم شاؤول أرون وهدار جولدن، فطوال ثمانية وعشرين عامًا لم يتغير شيء في هذا الاتجاه بالنسبة لحماس، ذات العلاقة شديدة الخصوصية والحميمية بقضية الأسرى، والسعي المسلح لإخراجهم. ثم إن لعملية الأسر الجارية الآن، والتي كشفت القسام عن نزر يسير منها، قيمة خاصة، تحصلت من مجيئها من قلب معركة طاحنة (حرب العام 2014)، فهي تلتقي مع عملية أسر جلعاد شاليط في كونها وقعت في أرض الوطن، وفي القدرة على الاحتفاظ بالجنود داخل الوطن، وتزيد عليها في كونها جاءت من معركة، قدمت فيها المقاومة أداء فريدًا غير مسبوق في ظروف مسرفة في قسوتها ووطأتها على قطاع غزة والمقاومة فيه، فإطالة تلك المعركة بإنجازاتها معنويا وتعبويا ودعائيا وفكريا وثقافيا، مهمة طبيعية بالنظر إلى أهمية الإنجاز وقدرته على تشكيل رافعة معنوية للشعب، وهجوم دعائي مضاد يستهدف منظومة العدو وجبهته الداخلية، وبالنظر إلى أدوار المقاومة المتعددة في فترات كفّ اليد، لا سيما ومع فائدة هذه المساهمة من طرف المقاومة في غزة في إسناد انتفاضة شعبنا في القدس والضفة الغربية. لكن وإن كانت تلك أصولاً تأسيسية، وعملية، تحكم أداء كتائب القسام في إدارة ملف الجنود المأسورين، فإنّ ثمة حاجة إجرائية راهنة تتصل بتلك الأصول، فأسر الجنود ليس غاية في ذاته، وأي إعلان للمقاومة بشأنهم لا يتقصّد أن يكون عملاً استعراضيًا يطلب إثارة الإعجاب، كما أن الاحتفاظ بهم، وإن كان إنجازًا في ذاته، فإنه إنجاز فارغ المعنى ما لم يفض إلى الإنجاز الأصلي، وهو مبادلتهم بأسرى شعبنا داخل سجون العدو، لا سيما وأن الاحتفاظ بهم داخل مكان كقطاع غزة عمل باهظ الخطورة، ومن ثمّ فلا بدّ من العمل الدؤوب على تحريك القضية داخل المجتمع والمؤسسة الصهيونيتين، مهما تظاهرت المؤسسة الصهيونية باللامبالاة. باختصار، لا تهدف كتائب القسام إلى الاستعراض، أو إثارة الإعجاب، أو المفاجأة بالجديد، ولا معنى لمطالبتها بشيء من ذلك، أو انتقادها لغياب شيء من ذلك، وإنما المطلوب منها الاستفادة من الذي بين يديها، واستثماره أحسن استثمار، وتحريكه الدائم بالشكل المدروس، وهذا الذي يبدو أنها ما تزال تفعله.

ساري عرابي

 

من نفس القسم دولي