الوطن
الاعتذار مفتاح لسياسة مقبولة من الجميع
العلاقات الجزائرية-الفرنسية بين إرادة التحرر والانتصار للذاكرة ورهان الهيمنة
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 07 جولية 2012
يشتد النقاش حول ما يجمع ويفرق الطبقة السياسية والرسميين في الجزائر وباريس عند عتبة كل ذكرى لإحصاء الفوارق في وجهات النظر، وما تعلق منها بعوامل بناء علاقات ثنائية متزنة ومتوازنة بين أعداء الأمس وحلفاء اليوم أو كما يصفهم المؤرخون.
ويجمع هذا النقاش بين ثناياه ما يوصل الماضي والحاضر بمستقبل هذه العلاقات المُتذبدبة بين حمى الحمية والبرودة ومحاولات تلطيف أجواء لا تعرف الصفاء المطلق، بل تخضع لارتدادات موجات التوافق النسبي. كما بهت الملاحظون والمحللون في طبيعة التقارب والتدافع الجزائري- الفرنسي اللذين يحكمانه ميزان تختلف بشأنه مقاييس التفاهم من حقبة لحقبة، بل بين عهدة رئيس وأخرى، أو بين قوى وأخرى لترجيح قياسات التقارب والتوافق أو الابتعاد والتشنج في علاقات ثنائية لا تعرف استحال هدنة أو الراحة الأبدية. علاقات تتأثر بعدة عوامل تحدد محفزات التوافق والانفراج أو تفعيل مسببات التوتر والانزعاج في حركية متواترة بين التعايش الهادئ والحذر تارة والطموح الهادف تارة أخرى.
50 سنة من المكاسب والانتكاسات
عرفت العلاقات الجزائرية - الفرنسية تقلبات عدة منذ الاستقلال. ولازال الجانبان، في العاصمتين، الجزائر وباريس، يلعبان على حبل هذه التقلبات لترجيح مصلحة على أخرى، حتى منتصف سنوات ألفين مع ظهور مبادرة "معاهدة الصداقة" للرئيسين بوتفليقة وشيراك التي عرف الفرنسيون يومها أسلوبا جديدا في التعامل مع الجزائر تخللته مصطلحات جديدة تغذي خطابا "نوعيا" لتجاوز ظلال الحقبة الاستعمارية المظلمة. وحملت خطب الرسميين الفرنسيين بوادر آمال لترقية العلاقات الثنائية لــ"درجة الامتياز". امتياز ظاهره مصالحة بمنطق مقلوب وباطنه مصالح غير متكافئة يشوبها تخوف فرنسي شديد من سقوط المُعَمِر في تبعية مُستعمَرة الأمس مراعاة لأهمية مصلحة الأول لدى الثاني كشريك اقتصادي وحليف استراتيجي في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط وحسب.
وهو ما يضع على المحك هذه المصالح في نظر الجزائر من منطلق أول متعامل اقتصادي للجارة الفرنسية حول البحر المتوسط على نمط غير متكافئ، محاولة بمنطق الهروب للأمام وترجيح كفة مصلحة الشريك الفرنسي اقتصاديا على حساب عدة ملفات يطغى عليها البُعد السياسي، الذي مازال الفرنسيون ينظرون إليها بنظرة الاستعلاء والاستعداء والاستغباء مستفزة للطرف الجزائري ومحركة الاستنفار على درجة من التذمر. أنانية تجاوزت حد خدش السيادة الجزائرية في قراراتها والتشكيك في شرعية مطالبها، عصفت مرارا بعديد الفرص المتاحة من أجل ترقية العلاقات الاقتصادية-السياسية والثقافية إلى "المثالية"، كما يحلو للفرنسيين تسميتها، إن لم نقل إلى "الامتياز" بالنظر لما يربط بين البلدين، حكومات وشعوب، من تطلعات وطموحات وتاريخ مشتركة.
هذا الأخير يوظفه الفرنسيون لأغراض سياسوية كلما طفح كيلها إلا ونسفت سنين من بناء علاقات اقتصادية تريدها فرنسا، على عكس الجزائر، في منأى عن التقلبات السياسية وأمزجة السلطات الفرنسية، التي تحكمها جماعات الحنين الاستعماري وأصحاب المصالح ولوبيات الضغط على القرار الفرنسي الرسمي لتنسف، عند كل مناسبة تاريخية، ما من شأنه إحداث ثورة حقيقية ونقلة نوعية في العلاقات بين البلدين والتعايش السلمي بين الشعبين.
50 سنة بعد الاستقلال لازالت هذه العلاقات رهينة اتفاقيات إيفيان، الممضاة بين الطرفين عشية الاستقلال، من جهة ورهان الهيمنة الفرنسية بنظرة أبوية لكل ما له صلة بذاكرة الشعب الجزائري والاعتراف بما سببه المستعمِر من تأخر حضاري وما سببه من تشويه للهوية وما خلفه من خسائر في المعدات والأرواح. وباتت العلاقات غير المتكافئة بين البلدين تترنح بين المبادرات الشجاعة والعجز في تحويلها إلى واقع في ظل تعنت الفرنسيين في تلبية مطالب جزائرية تتصل بالأرشيف، تسهيل حركة الأشخاص والأموال، الكف عن كتابة مغالطات للرأي العام والميل لتمجيد مخلفات الاستعمار وأذنابه وتجنب المواقف الاستفزازية والمخلة بالشعور بالآخر.
وكلما طالب الجزائريون نظرائهم الفرنسيين بمراجعة قرارات وقوانين جائرة في حق شريك استراتيجي، أو يعد نفسه كذلك، إلا وراحوا يضربون بهذه المطالب عرض الحائط ويمعنون في تشويه الحقائق عبر الإعلام المفبرك غير آبهين بأن للجزائريين ردة فعل توازي أو تفوق أفعال هذه النخبة من مروجي العداء الأزلي والشقاق الفعلي والنفاق السياسي المتوغلة في هياكل الدولة الفرنسية وأروقتها الرسمية.
المحاولات اليائسة والاعتراف المستحيل
وقد عبر مسؤولون فرنسيون، على غرار الرئيس ساركوزي ووزيره لكبار المحاربين، على هامش تكرين الحركى في مارس 2012، عن استحالة تقديم اعتراف واعتذار تاريخيين من طرف الفرنسيين للجزائر. وهي محاولة أخرى لنسف المكاسب المسجلة بين محطات الانفراج السياسي بين البلدين على ممر السنين، وذلك بخلق الصعاب والمعوقات واختلاق أسباب التشنج والمواجهة مغتنمين في ذلك تصريحات الرسميين في الجزائر أو نشاطات أعضاء العائلة الثورية للتعبير عن "الامتعاض" منها والرد عليها بتحريف فحواها وتحوير مضمونها وتحويل معانيها. ردود متصلبة تحمل بين سطورها رسائل الاستعلاء يغلفها استعداء مزمن وتطرف أكثر فأكثر في المواقف، تجابهه الجزائر بصمت وبرودة أعصاب تزيد في استفزازهم والنفخ على حمى الانتقام. وباتت وعود ونداءات المسؤولين الفرنسيين وعودا كاذبة تغذيها حملات مغرضة وأهداف مبيته.
عشية خمسينية الاستقلال، فجرت تصريحات وزير العائلة الثورية الجزائري محمد الشريف عباس ثورة التصريحات والتصريحات المضادة حينما قال إنه ينتظر من فرنسا "الجدية في الخطاب والواقعية في التطبيق". معقبا لأول مرة بعد انتخابات فرنسا الرئاسية. أن "شيئا لم يتغير منذ انتقال السلطة من اليمين إلى اليسار". يأتي ذلك عشية الاحتفال بمرور نصف قرن على استقلال الجزائر وتحريرها من نير أبشع "استدمار" في تاريخ البشرية دام 132 سنة خلال حقبة لم تسجل إلا تشريد الأهالي وطمس للهوية وقتل ملايين الجزائريين لا ذنب لهم سوى الرغبة في عيش كريم والطموح في أفق بلد سيد، مستقر، مزدهر وآمن بعد صراع مرير ضد الاستعمار الغاشم والمتنكر لتاريخ أمة يجمع العالم على أحقية وشرعية المطالب المتنازع عليها إبان التاريخ المعاصر لجيل الاستقلال.
المصالحة للجميع والمصالح لمن استطاع
كلام الوزير دفع مرة أخرى بالنقاش السياسي بين الضفتين إلى واجهة تظهر ملامحها أن عمر الجدل لازال طويلا، حتى لو بات المسؤولون الفرنسيون يعون أن مستقبل العلاقات الثنائية مرهون بالتصالح والتقارب أكثر في وجهات النظر. وأضحت خرجات الرسميين تنبئ بشيء ومواقفهم تعني تباعا عكس ذلك.
وجاءت خطوة الوزير الأول الأسبق دومينيك دوفيلبان يعبر فيها عن قناعته بكون المصالحة التاريخية مع الجزائر مفتاحا لسياسة عربية جديدة لفرنسا. داعيا لتقبل التاريخ وإن كان مؤلما.
وهي بمثابة صرخة في واد من أجل انقاذ مشروع الاتحاد من أجل المتوسط، لأن ما يهم رئيس الدبلوماسية الفرنسي سابقا مصالحة قاعدتها في الجزائر وسقفها في البيت العربي. وهي طريق ذكية لإبقاء سقف التنازل الفرنسي في الذهاب إلى مصالحة تاريخية، مثلما هو حال المصالحة بين فرنسا وألمانيا، محدودا أو مشروطا إن لم نقل يراد تعويمها في فضاء الوطن العربي، الذي يطل تلة من أرجائه على الضفة الجنوبية للمتوسط والمعنية بمشروع الرئيس المنتهية ولايته نيكولا ساركوزي، صاحب المبادرة التي تعتبر باريس الجزائر، بثقلها السياسي وعمقها الاستراتيجي، محركا أساسيا لها. لتبقى في المحصلة مصلحة فرنسا هي الأولى وهي الأعلى.
تزامن هذا مع إعلان زيارة مرتقبة للجزائر لرئيس الدبلوماسية الفرنسي لوران فابيوس لجس النبض في العاصمة الجزائرية ووضع نقاط الدبلوماسية الفرنسية الجديدة على حروف الحراك الفرنسي الجزائري منذ مجيء الرئيس المنتخب فرانسوا هولاند لقصر الإليزي.
ولا يهدف نداء دوفيلبان، حسب رأينا، سوى إعادة انخراط فرنسا في تفاعلات الوطن العربي في ظل إعادة رسم الخارطة السياسية على إثر ديناميكية "الربيع العربي" والتحولات التي أحدثها إقليميا في المنطقة. وتبقى هذه الخطوة وأخرٌ متشابهات آتية على المدى القريب بمثابة عربون صداقة لا أكثر. فهو لا يقدم ولا يؤخر في ثنائية الجدل الجزائري-الفرنسي المزمن الذي يحكم العلاقة بينهما بمنطق خطوة للأمام واثنتان للوراء.