دولي
التوظيف السياسي المجنون للتاريخ المصنوع
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 15 فيفري 2016
لم يكن اليهود في فلسطين في الحقبة التاريخية القديمة سوى أقلية دينية وعرقية قلقة ومزعجة، ولم يكونوا متوَّجين بالسيادة سوى في حقبة تتحدث عنها التوراة فحسب ولا تدعمها الحقائق الأثرية ولا النقوش اللغوية، وجغرافية فلسطين القديمة لا تتصل بنسب وثيق مقنع إلى جغرافية التوراة، بل تكثر اليوم الدراسات التي تنقل جغرافية التوراة إلى جنوب جزيرة العرب، أو إلى شرق إفريقيا وجنوبي مصر، ورغم ذلك كله فقد أرادوا منا أن نقرّ ونعترف بصحة ما ورد في كتابهم المقدّس، وأن نلتزمه أيضاً، وأن نلتزم بالشروح التي يختارونها لهذا الكتاب، وأن نراعي اجتهادات أحبارهم القدامى اللامعين، وأن نجعلها أدلة بحد ذاتها حتى لو كانت عيونهم لم تنبت في محاجرها إلا بعد حصول الحدث بقرون متطاولة. تلك الكلمات هي مقدّمة للحديث عن خطورة ما يسمونه بالحق التاريخي في فلسطين، وهو الأمر الذي تعاملنا معه بنفي هذا الحق ونفي حدوث هذا الادعاء من أصله في لغة حاسمة وربما متطرفة بنفي كل شيء حتى لو كان ثمة شيء وإن كان صغيراً. واتجاه العقل ومناط الحكمة تدفعنا لفتح الجواب مجدداً على أُفُقه المعاصر، فاليهود الإسرائيليون أقلية عرقية بدوية كانت تجوب الأقطار بحثاً عن طعامها ومستقر لها، وقد عاشت جاليات منهم في فلسطين وغيرها في الجغرافية القريبة والبعيدة، وكانوا جزءاً صغيراً من نسيج المنطقة الكبير، وإن كانت أصولهم ليست من فلسطين جزماً. الأمرُ هنا أنه لا يجوز لأقلية دينية أن تستدعي تراثها الثقافي الديني لتفرض على الناس حقها في مكان تاريخي عاشت فيه يوماً مع غيرها، وأن تتجاهل الأمم الكبيرة التي كانت تعيش في المكان وتحكمه لقرون، وأن تستثني هذه الأمم من حقها في امتلاك وطن تاريخي بالطريقة نفسها التي تمنحها (إسرائيل) لنفسها، ولطالما كان اليهود تبعاً للمنطقة في لغتهم وثقافتهم وتقاليدهم الاجتماعية وإن كانوا ينتمون إلى هوية نفسيّة معزولة ومحاصَرة بأحلام التفوّق العرقيّ والغلوّ العنصري.
لا يقبل العلم من أحد أن يفرض علينا تفكيره الديني الذي تقابله تحقيقات دينية مقدّسة أنها ذات مرجعية محرّفة جرى التدخّل فيها عمداً من أشخاص نافذين هذا الادعاء أيضاً كارثة سياسية وقانونية مجنونة، فهذه الطريقة في التفكير تعني استدعاء التاريخ والأساطير المؤسِّسة لثقافات الأقوام والشعوب وتحكيمها في واقعنا، مما يعني حرباً شعوبية شاملة تستخدم فيها الأدوات التاريخية والآثارية والأسطورية لشحذ الأسلحة وسفك الدماء، فهذا يعني - إن وافقنا على طريقة التفكير المجنونة هذه - أن تستدعي بريطانيا شمسها التي لا تغيب عن العالم وتطالب بحقها في استرجاع مستعمراتها وتشحن الجيوش لذلك، ومن حق ألمانيا أن تطالب بنصف أوروبا، وأن تطالب اليابان بالصين كلها وشطراً من روسيا، وأجزاء من ماليزيا وسنغافورة وأندونيسيا.
ومن حق المسلمين بهذا المنهج الذي يروّج له الإسرائيليون والمتصهينون الأجانب والعرب أن يطالبوا بعودتهم إلى الأندلس التي حكموها واستوطنوها لثمانية قرون، ومن حقهم أن يكتبوا المراثي ويستأجروا النائحات ويرسموا الأحلام للأجيال ألا ينسوا الأندلس وأن تبقى محفورة في ذاكرتهم وأن تغمض عيونهم على أجفان الحلم بالعودة والانتقام من محاكم التفتيش المرعبة التي فتكت بشعب عاش طويلاً في مكان لم يعرف وطناً غيره. هذه الكلمات تتوجّه تأسيساً إلى أصحاب الثقافة المشطورة التي تتذاكى بتشفٍّ وغيظ لتهين تاريخ أمة تنهض أو تهوِّن من تاريخ شعب يقاتل ليسترد حريته أو تعزل طائفة من الناس تجاهد وحدها بشرفٍ ... يتذاكى أصحاب الثقافة المشطورة لتبرير العجز وتمرير الخذلان وإلقاء القذارة على الجميع ليكونوا في مستوى انعدام (النظافة) الفكرية التي انحدروا إليها، فتكون كل قضيةٍ كبيرةٍ مجردُ سلعة قابلة للمساومة والتفاوض عندهم؛ وللخيبة فإنهم لا يعرضون ما جعلوه بضاعةً في سوقٍ، بل يعرضونه في إعلامهم العام دون أن يقبضوا ثمناً عليه، فكانوا بذلك تجاراً خائبين خاسرين أيضاً.
د. أسامة الأشقر