دولي

الانتفاضة في شهرها الثالث

القلم الفلسطيني



مضى شهران ونصف الشهر على انطلاق الاشتباك الانتفاضي الفلسطيني مع الاحتلال الصهيوني. ما يعني أن بطش الاحتلال أخفق في إخماده، مثلما فشلت محاولات إجهاضه بوصفة «التهدئة» التي أطلقها وزير الخارجية الأمريكي، كيري. هنا لم يعد ثمة قيمة علمية لجدل إن كان، (الاشتباك)، «انتفاضة» أم «هبّة تنتفخ وتنطفئ خلال أيام»؟ فحتى أجهزة الاحتلال الأمنية كفت عن وصفه ب«موجة إرهاب عابرة»، وباتت تسميه «انتفاضة ثالثة»، بينما تشير آخر تقديراتها إلى أنها «ستستمر». ذلك يعني أن صناع هذا الاشتباك قد سطروا، بدمائهم ووعيهم الوطني، صفحة جديدة في سفر النضال التحرري الفلسطيني، وأسقطوا النظرة الصهيونية الاستعلائية: «العربي يخضع للقوة»، وأثبتوا أن المحرك الأكبر لهذا الاشتباك هو التطلع للحرية والاستقلال، وليس «الإحباط والفقر وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية»، حسب النظرة الصهيونية الاستشرافية التي تعرف، لكنها لا تريد أن تعترف بأن الشعب الفلسطيني ينهض منذ عقود، وبأنه لا يكف عن الكفاح لانتزاع حقوقه، وبأنه قدم في سبيلها نحو 60 ألف شهيد في أربعينات القرن الماضي، وأكثر منهم في مرحلة الثورة المعاصرة، وأضعاف أضعافهم من الأسرى والجرحى، ما يؤكد أن الأمر أبعد من مجرد «إحباط وفقر»، وأن غطرسة القوة الصهيونية سوف تسقط، في نهاية المطاف، أمام حقائق الحياة وتجارب اندحار الاستعمار واستقلال الشعوب.
لقد تمادت سياسات الاحتلال الصهيوني في فاشيتها لدرجة الظن بأنه يمكن تبديد اليقظة الوطنية للشعب الفلسطيني وتصفية حقوقه الوطنية والتاريخية. بينما أمعنت الولايات المتحدة، كراعٍ لمفاوضات مدريد-أوسلو، في «لعبة» «الخصم الحكم». وبهذا وذاك تبخرت أوهام مسار المفاوضات الذي استمر ربع قرن من الزمان، ولم يفضِ إلى استقلال وطني ولو على «حدود 67»، ولا حتى إلى وقف التوسع الاستيطاني الذي حوَّل «القدس الشرقية» إلى معازل عربية محاطة بأسيجة يهودية، والضفة إلى عشرات القطع التي تفصلها الشوارع الالتفافية وتحاصرها المستوطنات ويقطع أوصالها جدار الضم والتوسع. أما قطاع غزة فتحول إلى سجن كبير لتجمع سكاني محاصر ومخنوق تعرض لثلاث حروب في أقل من عقد من الزمن، ويعيش تحت شبح المزيد من حروب الإبادة والتدمير.  كل ذلك علاوة على استثناء اللاجئين، بما هم أصل القضية وجوهر الصراع، من أي بحث تفاوضي، ومثلهم «فلسطينيو 48» الذين يواجهون اليوم مشروع برافر لتهويد النقب، وما انفكوا يتعرضون لتطهير عرقي مخطط لم يُبقِ بيدهم سوى 2% من أرضهم، ولتمييز عنصري مقونن لا يعترف بخصائصهم الجماعية وينكر حقيقة أنهم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني.
بذلك لم يبق أمام الشعب الفلسطيني، (الذي لم يستسلم لاختلال ميزان القوى يوماً)، سوى أن يستعيد زمام المبادرة، وأن يجترح، بالدماء، مساراً بديلاً لمسار المفاوضات. وهو ما حصل، حيث أطلق في مطلع اكتوبر/ تشرين الأول الماضي، مساراً انتفاضياً ميدانياً، حافظ على استمراريته، ما يحوله إلى فاعل سياسي لديه وما يتخلله من أعمال مقاومة شعبية بطولية، حيوية وديناميات تزيح عنه احتمالية الخبو قريباً، اتصالاً بأن المحركات التي أوقدت شعتله ما زالت قائمة، بينما يزيدها توقداً سقوط 120 شهيداً وآلاف الجرحى، واعتقال أضعافهم، فضلاً عن جرائم احتجاز جثامين عشرات الشهداء، والإعدام الميداني، والتمثيل بجثث الشهداء وأجساد الجرحى، وهدم البيوت، وإغلاق مداخل الكثير من القرى والمخيمات وأحياء بعض المدن. وتتشابك، هنا، عناصر العامل الاحتلالي، كشرط موضوعي لاستمرار هذا الاشتباك الانتفاضي مع عناصر عامل وطني فلسطيني، لعل أهمها أن الجيل الشبابي، (من الفئة العمرية 16-26 سنة)، الذي يتصدر الميدان، يزيد اليوم، (في «مناطق 67» وحدها)، عن المليون، بينهم 200 ألف طالب وطالبة في الجامعات، وأكثر منهم على مقاعد الدراسة الثانوية، علماً بأن هذه الفئة العمرية كانت الأكثر فعالية في انتفاضتيْ 87 و2000، اتصالاً بما تحمله من تطلعات وطاقات ومبادرات وأحلام كبيرة واستعداد عالٍ للتضحية لأجل (العودة والدولة وتقرير المصير)، الحقوق العادلة والأصيلة لشعب يناهز اليوم 13 مليوناً، ويختزن خبرة تجربة نضالية غنية ومديدة، ويستند إلى حقائق تاريخية تؤكد تعرضه لاقتلاع عام 48، ولاحتلال عسكري عام 67، ويتسلح بقرارات دولية تعترف بالحد الأدنى من حقوقه الوطنية والتاريخية. لكن، لا يجوز تبسيط الأمور، إذ رغم استمرار الاشتباك الميداني، ورغم ما حصده حتى اللحظة من نتائج، أهمها تخلُّص الوعي الفلسطيني، في مجمله، من خدعة أن مسار مدريد-أوسلو سيفضي لدولة، إلا أن سياسة الاحتلال الهجومية لم تتراجع قيد أنملة، ما يعني أن ثمة جملة من التحديات تواجه هذا الاشتباك، أبرزها القدرة على امتصاص إجراءات الاحتلال، وعلى استمالة قطاعات جديدة للانخراط، بأشكال مختلفة، في الميدان، وتجسير الهوة بين «الميداني» و«السياسي»، (مثلاً)، عبر تنظيم الفصائل مسيرات مشتركة دورية وحاشدة في الضفة وقطاع غزة ومناطق 48 والشتات واللجوء، لما يحمله ذلك من أبعاد سياسية ومعنوية.
إزاء هذه التحديات ثمة استحقاقات سياسية وتنظيمية لا بد للفصائل من تلبيتها، أبرزها إنهاء الانقسام، وتجاوز «أوسلو»، وتكريس وتعميم الوحدة الميدانية، وتقبُّل التعايش والكف عن احتكار الوطنية واعتبار الاشتباك الميداني الحلقة المركزية، وتصويب النظرة للذات وللسياسات الاحتلالية، آخذين في الاعتبار أن الشعب الفلسطيني حقيقة يتعذر تبديدها أو تجويفها، وأن الاحتلال يريد تحويل السلطة الفلسطينية لوكيل أعمال، وهو ما لا تقبل به قيادة فلسطينية، «معتدلة» كانت أو «متشددة»، ما يفرض التخلص من أن ثمة فرصة لتسوية سياسية قريباً. فخطاب نتنياهو الأخير في الجمعية العامة واضح، وجوهره: (لا دولة فلسطينية خلال ال20 سنة القادمة، ولا انسحاب من الأغوار، ولا وقف للاستيطان، وعلى الفلسطينيين الاعتراف ب«إسرائيل» «دولة يهودية»، وب«القدس عاصمة أبدية» لها).

علي جرادات

من نفس القسم دولي