دولي

أوروبا والنصائح الصهيونية المسمومة

القلم الفلسطيني


معظم الدوائر الصهيونية والمتصهينة، داخل "إسرائيل" وخارجها، تجتهد هذه الأيام في ركوب موجة الغضب الأوروبية من الهجمات الإرهابية، التي وقعت مؤخراً في باريس، ذلك بإيجاد خطوط بارزة تصل بين الإسلام والمسلمين عامة وبين هذه الهجمات ونظائرها، ثم بالقفز إلى ترسيخ ثلاث قناعات واعدة بالنسبة لهذه الدوائر ولكيانها السياسي "إسرائيل": الأولى، أن الأوروبيين كالإسرائيليين، يواجهون عدواً مشتركاً، بما يكفى لتجديد التحالف التاريخي بينهم، كونهم «يعيشون على حد السيف الإسلامي».
والثانية، محورها تحفيز يهود أوروبا على التعلق بـ"إسرائيل" والهجرة إليها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. والثالثة تدور حول فرملة النزعة الزاحفة في أوروبا الشعبية والرسمية، نحو الاعتراف بفلسطين ومقاطعة "إسرائيل"، وتعطيل التيار الداعي إلى التعجيل بحل الدولتين؛ الذي سيفضي إلى تحرير فلسطين الدولة.
رب قائل: إن هذه المقاربة الخبيثة لا تنطوي على أي جديد، فمن المعلوم أنه كلما اهتاج الأوروبيون واستشاطوا غضباً جراء أي مباغتة إرهابية تقع بين ظهرانيهم، انبرت هذه الدوائر إلى التعامل بالمنطق ذاته، بعد إلقاء التهمة على العرب أو المسلمين أو على كليهما.
وفى هذا السياق، تبدو هذه الدوائر اليوم كمن يفرك كفيه نشوة وطرباً لاندياح الإرهاب في أوروبا وتشفياً فيمن يستهدفهم من أبنائها. وبالطبع، فإن الباحثين عن الجناة المستفيدين من أحداث فرنسا وتخويف الأوروبيين عموماً، يفتقدون إلى الكثير من الحكمة والحرفية إن هم استبعدوا الأيدي الصهيونية وأنصارها من حيز الشبهات.
على أن معالجة هؤلاء المتذاكين، الشامتين؛ الذين يصح أيضاً وصفهم بالمحرضين، تشير بالفعل إلى جديد فارق هذه المرة، موجزه تحميل خطابهم للحادثة الأخيرة بجرعة كبيرة من التسميم الثقافي السياسي، جرعة شديدة الخطورة على الاجتماع السياسي الأوروبي بكليته. إنهم، مثلاً، يدعون الأوروبيين إلى الاستعصام بعدد من اللاءات: لا للإسلام والمسلمين؛ لا لاستقبال المهاجرين واللاجئين؛ لا للتسامح مع كل الآخرين؛ لا للحدود المفتوحة داخل القارة أو بينها وبين الجيران العرب جنوب المتوسط. هذا علاوة على أن استفزاز الأوروبيين اليهود للهجرة باتجاه "إسرائيل"، يعنى إخلاء القارة العجوز منهم.
ومحصلة ذلك كله، إيقاع الدول الأوروبية في هاوية القطيعة بين بعضها البعض من جهة، والفصل بينها وبين العالمين العربي والإسلامي من جهة ثانية، وإخلائها من غير المسيحيين من جهة ثالثة. ولنا أن نتخيل المشهد الاجتماعي والسياسي والثقافي في أوروبا وقد تزعزعت بين دولها أسس العمل الجماعي، وزالت داخلها معالم التعددية الثقافية والأيديولوجية والسياسية، وباتت مجتمعاتها أقرب إلى الجفاف والتقوقع على الذات بالمفهوم الديني الصرف. ولنا بالتداعي والتبعية، أن نتصور حدوث انعزالية وتقوقع مماثل ومواز على ضفتي المتوسط الشرقية والجنوبية حول المفاهيم الإسلامية، فضلاً عن وجود الجيب اليهودي الذي تعنيه "إسرائيل" ألا تلتقي المكونات الدينية لهذه الخريطة الكبرى مع ما يدعو إليه الدواعش؟! ألا تشكل هذه النتيجة ردة عن عمليات التفاعل والتلاقح الإنساني الحضاري الخلاق؟!
والحال كذلك، لم تعد الدعوة الصهيونية إلى الحل الانعزالي قاصرة على اليهود فقط، بل باتت تشق طريقها الآثم إلى رحاب العالم القديم برمته تقريباً، وهي تتلاقى كتفاً لكتف مع الفكر الداعشي إسلامياً والنازي الفاشستي مسيحياً، ثم إن هذه الدعوة تثير الشكوك في قدرة الأوروبيين، بالمعنى العابر للأديان والقوميات والملل والنحل والأيديولوجيات، على دحر التطرف والمتطرفين والإرهاب والإرهابيين، وتشجع أتباع كل ديانة ونحلة وملة وطائفة على الإفلات بأنفسهم، والبحث عن حلول تخصهم وحدهم. وهذا يتعاكس تماماً ومفهوم الدولة المدنية.
ترى هل يقدر لأوروبا، المسؤولة تاريخياً عن إنتاج الصهيونية بكل مضامينها العنصرية والانعزالية والعنفوية، أن تكتوى بنيران هذه المضامين؟ لننتظر ونرى.

د. محمد خالد الأزعر

من نفس القسم دولي