دولي
ما غاب في خطاب عباس
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 02 أكتوبر 2015
سبق خطاب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في الأمم المتحدة، كلام واضح، وكلام مبطن، أنه ينوي إلقاء قنبلة سياسية، لكن المتابعين عن قرب كانوا على علم بأن القنبلة تكبر وتصغر تبعاً للضغوط الدولية التي استدعاها الحديث عن قنبلة سياسية، وخصوصاً لقاء كيري - أبو مازن، والذي كان له أن يحسم الحجم النهائي لقنبلة الرئيس. لا نعرف، بالضبط، ما جرى في ذلك اللقاء، لكننا نعرف ما قاله أبو مازن، ونعرف أهم ما لم يقله. هناك خطابات لا تُقيّم بما جاء فيها فحسب، بل تُقيّم أكثر بما غاب عنها. وعوضاً عن سرد ما جاء في خطاب فلسطين أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة وتحليله، يجب تسليط الأضواء على ما غاب عنه.
لم يعلن الرئيس عن حل السلطة الوطنية الفلسطينية، وتحميل إسرائيل مسؤوليات "دولة احتلال"، وتحمّل مسؤولية مواجهة الاحتلال والنضال لإنهائه، الأمر الذي كان من شأنه أن يقلب الأوضاع رأساً على عقب، وأن يعيد قضية فلسطين إلى مكانها الصحيح قضية تحرر وطني، ونضالاً من أجل التحرر الوطني.
لم يجزم الرئيس بإلغاء اتفاقيات أوسلو، كما أشاع بعضهم، بل ألمح إلى التزامه بها، إذا التزمت إسرائيل، ملوحاً بتهديد أنه لن يلتزم بها إذا لم تلتزم إسرائيل. لا ندري كيف تلتزم إسرائيل باتفاقيةٍ كان يجب أن تنتهي عام 1999 بحل دائم. لا مكان لاذا الشرطية هنا، ولا يمكن إعادة عجلة التاريخ إلى الخلف، وإسرائيل لم تلتزم ولن تلتزم بالاتفاقية، وهذا يعرفه الجميع. كان ممكناً عرض كل الانتهاكات الإسرائيلية، والإعلان عن إلغاء الاتفاق، بكل ما يحمله ذلك من تداعيات محلية ودولية، وليس للفلسطيني ما يخسره في هذه الحالة، بل سيؤدي ذلك إلى فتح آفاق جديدة مغلقة اليوم.
لم نسمع من الرئيس قولاً واضحاً بشأن التنسيق الأمني الذي أصبح عاملاً مركزياً في إطالة عمر الاحتلال، والذي أضحى إلغاؤه شرطاً مسبقاً لتقصير عمر الاحتلال. لا يمكن تفسير ردة
الفعل الإسرائيلية الهادئة نسبياً على الخطاب، إلا لأن اسرائيل لا تقيم حساباً للخطابات والتصريحات، ما دام التنسيق الأمني قائماً، وما دام يحمي الهدوء في ظل الاحتلال. لم يدعُ أبو مازن إلى فرض عقوبات على إسرائيل وفرض المقاطعة عليها، حتى تنصاع للقرارات والقوانين الدولية. كيف يمكن الضغط على إسرائيل أن لم تدفع أي ثمن لعدوانها وتجاوزها الدائم كل الأعراف والمواثيق الدولية؟ كيف لحركة المقاطعة الدولية أن تتوسع وتقوى، أن لم يرد حتى ذكرها في خطاب فلسطين الرسمي في الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
لم يهدد أبو مازن باتخاذ خطوات دراماتيكية لإنقاذ المسجد الأقصى، واكتفى بوصف الحال وكأنه مراقب، بدلاً عن إنذار إسرائيل بأن استمرارها بانتهاك حرمة الأقصى سيكلفها ثمناً غالياً، مثل وقف التنسيق الأمني، وإمكانية زحف مليوني نحو القدس، أو دعوة الدول العربية والإسلامية لقطع علاقاتها بإسرائيل وغيرها.
لم يرد في خطاب الرئيس أنه ينوي الاستقالة وإخلاء الساحة، كما روَّج كثيرون في وسائل الإعلام، وفي المجتمع السياسي الفلسطيني. هو لم يصرح بذلك، ولم يلمح، على الرغم من كل ما قيل عن ذلك، وعن أن ذلك سيسبب أزمة سياسية كبيرة، تستدعي تدخل دول العالم للجم إسرائيل إنقاذاً للوضع. والحقيقة أن استقالة الرئيس، أو عدم استقالته، ليست الأمر المهم، بل استقالة السلطة كلها، والتحول إلى نضال تحرر وطني، بدل حالة انتقالية فاشلة، طال أمدها وانسدت آفاقها. ما قاله الرئيس أبو مازن لم يكن خطوة صغيرة إلى الأمام، فكلامه عن إمكانية إلغاء الاتفاقيات مع إسرائيل جاء مشروطاً ومضبوطاً ومطمئناً بأن الأمر سيكون متدرجاً وقانونياً وسلمياً. حتى هذا الكلام لم نسمعه في الماضي، لكنه لا يلبي الحد الأدنى من طموح الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات.
في الظروف السياسية الحالية، وفي الأوضاع المحيطة في المنطقة، وفي ظل تهميش القضية الفلسطينية، وفي مواجهة التطرف الإسرائيلي المتزايد، لا تنفع الخطوات الصغيرة المدروسة والمحسوبة والمتوجسة، بل هناك حاجة، ليس لخطوات في حدود الإطار نفسه، بل لتحولٍ في الاستراتيجية وتغيير جذري في التعامل مع الأمور، والانتقال من خانة سلطةٍ فاشلةٍ، يساهم كيانها موضوعياً في المحافظة على واقع الاحتلال واللاحل القائم، نحو استراتيجية نضال تحرر وطني، وما يلزمها من وحدة وطنية ونضال عنيد ضد الاحتلال، ومن أجل تحقيق أهداف التحرر والاستقلال والعودة. خاطب أبو مازن العالم كرئيس سلطة في أزمة، وليس كقائد حركة تحرر وطني، بلغة يفهمها الناس في كل مكان.
جمال زحالقة