دولي

نتنياهو يحاول تغيير صورة الصراع في القدس وتحريفه خدمة لأهداف صهيونية

من خلال بناء وعي جديد عبر رسائل سياسية غاية في الخطورة



ليست اقتحامات جنود الاحتلال ومستوطنيه حدثاً آنياً، إنما هي اعتداءات تتكرّر يومياً ويتصدّى لها الفلسطينيون أيضاً بشكل يومي، لكنّها أخذت منحى تصاعدياً العام الماضي، وصلت إلى حدّ دعوة وزراء ونواب الكنيست الإسرائيلي جهارة إلى تغيير الوضع القائم "ستاتوس كوو"، وتشريع مسألة التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، وصولاً إلى دعوات صدرت عن زعيم حزب "البيت اليهودي" نفتالي بينيت وآخرين، بفرض السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى المبارك.
لكن لا يمكن أخذ التصعيد الإسرائيلي الأخير في القدس المحتلة، والذي بلغ ذروته هذا الأسبوع، بمعزل عن السياق السياسي والأهداف الإسرائيلية المتوخاة من ورائه.
وعلى الرغم من أن رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، تعهد في نوفمبر الماضي، خلال اللقاء الثلاثي الذي جمعه في العاصمة الأردنية عمان، مع كل من وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، بعدم إدخال أي تغيير على الوضع القائم. إلا أن التطورات الأخيرة تكشف أن نتنياهو اتخذ سلسلة خطوات تشريعية وأخرى تنفيذية ميدانية، بدءاً من تغيير أوامر إطلاق النار، واقتراح نشر القناصة في مواقع محدّدة داخل القدس، وإطلاق حرية الجنود وأفراد الشرطة بإطلاق النار على "راشقي الحجارة"، وسلسلة الإجراءات العقابية الجماعية ضدّ أهالي القدس المحتلة، وسياسة الغرامات الجديدة لخلق ما تسميه إسرائيل "بالردع". وكان يؤسس من خلال هذه الخطوات إلى بناء وعي جديد عبر رسائل سياسية غاية في الخطورة، هدفها الأساسي تغيير صورة الصراع في القدس وتحريفه عن حقيقته وطبيعته الأصلية. إذ يحاول نتنياهو، عبر توظيف ديماغوجي ودعائي مكثف لمقتل مستوطن إسرائيلي في حادث طرق خلال عيد رأس السنة العبرية، تدّعي إسرائيل أنّه قتل بعد رشق سيارته بحجر، مما جعلها تنحرف عن الطريق، تشويه واقع الوضع الراهن في القدس المحتلة، مستعيناً في الوقت نفسه "بالمستوطنين وغلاة الوزراء في حكومته"، لإبقاء شعلة التوتر الأمني متقدة.
ويريد نتنياهو تحقيق هدفين رئيسيين، الأول هو حزبي داخلي، يتمثل في العودة لإظهاره بمظهر القوي في مواجهة أطفال الحجارة، والحامي والمدافع عن "عاصمة إسرائيل الأبدية"، وبالتالي إسكات معارضيه في اليمين عبر السماح لأنصارهم (خصوصاً الجماعات الصهيونية الدينية التي يمثلها حزب البيت اليهودي بقيادة نفتالي بينيت) بمواصلة اقتحامات المسجد الأقصى، وبالتالي ضمان وقوفهم إلى جانبه في مواجهة دعوات اليميني أفيغدور ليبرمان على سبيل المثال له بالاستقالة، لفشله في ضمان الأمن داخل القدس المحتلة.
أما الهدف الثاني والأهم من وراء التصعيد البلاغي في خطاب نتنياهو بشأن مواجهة رشق الحجارة والزجاجات الحارقة، من جهة، والإعلان عن خطته "العملية" بإجراء العقوبات وتغيير سياسة إطلاق النار من جهة ثانية، فهو بالأساس سياسي استراتيجي، يتمثل في تكريس صورة القدس كمدينة "عاصمة"، تعيش حالات من انعدام الاستقرار الأمني الشخصي لسكانها، الذين يئنون تحت ضربات إرهاب "الحجارة الفلسطينية"، وحصر كل حالة الاحتقان والمقاومة في القدس في خانة المربع الأمني. وهذا يفسر على سبيل المثال مسألة تقسيم القدس، وفق خطة نتنياهو المعلنة، إلى تسعة مربعات أمنية (تختص بالأحياء الفلسطينية في القدس المحتلة عام 67، تُفرض فيها تدابير أمنية مشدّدة، بما في ذلك استجلاب وحدات الكلاب البوليسية لإطلاقها على المتظاهرين وراشقي الحجارة).
ويوظف نتنياهو في خطته الجديدة، حقيقة غياب أي وجود رسمي أو شبه رسمي للسلطة الفلسطينية، أو حتى لقيادات مقدسية محلية، كالتي سادت خلال الانتفاضة الأولى، وغياب "الشخصيات الوطنية"، للتفاعل مع أهالي القدس باستمرار سواء بفعل انتماءاتها الفصائلية، أو بفضل المظلة التي وفرتها لها منظمة التحرير في تلك الأيام. ولعله من اللافت مثلاً أن كثيراً من هذه الشخصيات، وإن كانت لا تزال تقيم وتعيش في القدس المحتلة، إلا أن نشاطها السياسي الفلسطيني اختفى وغاب عن مشهد القدس العام.
وفي ظل غياب هذه المرجعيات الفلسطينية، فإن الساحة باتت مفتوحة أمام حكومة الاحتلال، عبر أدواته التنفيذية المباشرة وهي بلدية القدس، لتكثيف سياسات التهجير والإبعاد والهدم وسياسة العقوبات الجماعية، والحل الأمني الإسرائيلي. بهذه الطريقة يريد نتنياهو تحويل ملف القدس إلى ملف أمني داخلي، لا حق لجهة أجنبية بالتدخل به، ليبقى خارج ملف المفاوضات مع الفلسطينيين، خصوصاً أن اتفاق أوسلو ترك ملف القدس لمفاوضات الحل الدائم، ومنح ذلك حكومة الاحتلال سنوات طويلة لفرض المزيد من الوقائع على الأرض، وتنفيذ زحف استيطاني هائل على الأراضي المحيطة بالقدس، وابتلاع قرى بأكملها وتحويلها إلى أحياء تتبع لنفوذ بلدية الاحتلال، مع إخراج أحياء أو قرى أخرى وراء الجدار الفاصل لتقليل عدد الفلسطينيين في المدينة.
م. ع/وكالات

من نفس القسم دولي