دولي

أولويات ما بعد حقبة عباس

القلم الفلسطيني



من العبث التعاطي بجدية مع التسريبات الممنهجة التي يعكف عليها رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، ومقربوه، بشأن نيته الاستقالة من المواقع التي يشغلها. ذلك أنها تهدف فقط إلى محاولة إقناع إسرائيل بتقليص مستوى إحراجها له، ليبرر مواصلة التمترس في مناصبه، حتى بعد أن تبين، بشكل لا يقبل التأويل، فشل برنامجه السياسي الذي يعكسه نجاح الكيان الصهيوني في حسم مصير الأراضي الفلسطينية من خلال التهويد والاستيطان، في ظل أقل قدر من الممانعة الفلسطينية التي أجهضها عباس بالتعاون الأمني مع سلطات الاحتلال. خيبة أمل عباس كبيرة من حكومة اليمين المتطرف في تل أبيب، إذ أنها لا تأبه مطلقاً بالمديح والثناء الذي يخلعه قادة الجيش والاستخبارات الإسرائيلية عليه، لدوره في منع انتفاضة ثالثة، وعدم تردده في شن حرب شعواء على كل من تدور حوله شبهة الارتباط بالمقاومة ضد الاحتلال. عباس محبط لأن حكومة نتنياهو لا تتعاطى معه وفق تقدير الجنرال تامير يمناع، قائد قوات جيش الاحتلال في الضفة الغربية، الذي قال إنه لا يمكن العثور على حاكم عربي يجاهر بـ "تقديسه" التعاون الأمني مع إسرائيل، كما يفعل عباس (موقع وللا، 9-8). يبدو عباس يائساً من إمكانية الوصول إلى قاعدة للتفاهم مع نتنياهو، حتى بعد أن قال رفيف دروكير، أحد كبار المعلقين في تل أبيب، ملاحظته المهينة: "أفضل خبراء التقنية المتقدمة في إسرائيل ليس في وسعهم تطوير شريك مريح لإسرائيل مثل محمود عباس"(هآرتس، 19-7). لكن، مما يفاقم من إحباط عباس، ويدفعه إلى مواصلة التسريبات عن نيته الاستقالة، حقيقة أنه غير مستعد لتبني خيارات حقيقية لمواجهة هذا الواقع، فهو ليس من القادة المستعدين لتغيير قواعد المواجهة، إذا ثبت أنها غير مجدية، ما يجعله، ومقربيه، لا يكلون من تغذية وسائل الإعلام بالتسريبات حول نيته الاستقالة. ومع ذلك كله، هناك حاجة ماسة وحيوية لنقاش وطني فلسطيني حول مرحلة ما بعد عباس الذي تجاوز الثمانين، ويمكن أن يغيب عن المشهد في أية لحظة، فلا يجوز على الإطلاق السماح بتطبيق الترتيبات التي يفترض أنها تتم في أكثر من عاصمة، وتهدف إلى تتويج أحد الذين يسيرون على نهج عباس خلفاً له. من هنا، يتوجب الشروع في طرح مسألة ما بعد عباس بقوة، ولا سيما وأنه يتم بشكل متعمد القذف بأسماء مرشحين لخلافته، وجميعهم شركاء له في الفشل والمس بالقضية الوطنية. ولا حاجة للتذكير بأهمية الشرعيات التي يشغلها عباس، وتؤثر بشكل حاسم على القضية الوطنية، فهو رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ورئيس السلطة الفلسطينية، ورئيس حركة "فتح". ومن أسف، هناك من يحاول تيئيس الفلسطينيين من إمكانية التأثير على مرحلة ما بعد عباس، بالقول إنه لن يتم تنصيب خليفة لعباس إلا من الذين يحظون بدعم هذا الطرف الدولي أو تلك الجهة الإقليمية. فالظروف الآن تختلف عن تلك التي تولى فيها عباس مقاليد الأمور، فقد تهاوى كل ما وعد عباس وحليفه السابق سلام فياض، فبروز مظاهر فشل مشروع عباس تفرض على كل من يرغب في وراثته أن يحرص على تجنيد دعم جماهيري وشعبي واضح. ومن الخطأ الجسيم الانشغال بمسألة بهوية من سيخلف عباس، بل يتوجب استغلال رحيله، ليصبح حدثاً تأسيسياً لمرحلة جديدة في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني. من هنا، يتوجب على القوى الوطنية والأطر الجماهيرية وكل الفعاليات المؤثرة في الساحة الفلسطينية أن تصر بعد رحيل عباس على نزع الشرعية عن منظمة التحرير، في صيغتها المؤسساتية والشخصية الحالية، والإصرار على بناء مؤسسة تمثيلية جديدة للشعب الفلسطيني، حتى لو ظلت تحمل اسم "منظمة التحرير الفلسطينية". وعلى الرغم من أن أهمية أن تعكس المؤسسة الجديدة الأوزان الحقيقية للقوى الفاعلة على الساحة، فإن الأكثر إلحاحاً أن يتم التوافق على برنامج وطني شامل، لا يسمح بتفجر انقسامات داخلية، بسبب الخلاف حول الموقف من التعاطي مع الآفاق السياسية لحل الصراع والعمل المقاوم. يتوجب أن يعكس البرنامج الوطني الشامل استخلاص العبر من الأخطاء التي وقع فيها الفلسطينيون في المرحلة السابقة، بسبب افتراضات تعارضت مع الواقع، وممارسات لم ترق إلى مستوى المسؤولية الوطنية. والمؤكد أن التوافق على برنامج وطني شامل يتطلب مرونة وواقعية سياسية، واستعداداً مبدئياً للتوصل إلى قواسم مشتركة. فمثلاً، لم يعد ممكناً لأحد أن يواصل التشبث بمواقف عباس من المفاوضات مع إسرائيل، والتعاون الأمني معها. في الوقت نفسه، تدلل تجربة العقود الثلاثة الأخيرة على وجوب التوافق على مبادئ لتنظيم العمل المقاوم المسلح ضد الاحتلال، بحيث يسهم فعله في تقريب الشعب الفلسطيني من تحقيق أهدافه الوطنية، لا أن يفضي إلى تراجع القضية، كما حدث مرات. في الوقت نفسه، هناك حاجة للتوافق على آليات لتفعيل المقاومة الشعبية بشكل حقيقي، وابتداع وسائل وآليات عمل أخرى للنضال السياسي والدبلوماسي. ناهيك عن أن من أهم القضايا التي يتوجب حسمها مسألة الموقف من بقاء السلطة الفلسطينية نفسها، فظروف عمل السلطة ساعدت اليمين الإسرائيلي على مواصلة تطبيق استراتيجية إدارة الأزمة، حيث تواصل إسرائيل الاحتلال الأرض، فيما تقوم السلطة بالواجبات التي يفترض أن تقوم بها قوة الاحتلال، وفق القانون الدولي. من هنا، يجب أن ينصب الانشغال، أولاً، على التوافق على بناء المؤسسة التمثيلية والبرنامج المشترك الجامع.

من نفس القسم دولي