دولي

الاعتراف بالكيان الصهيوني.. وتحصيل الحاصل

القلم الفلسطيني




لا شك بأن إدارة اللعبة السياسية تتطلب حكمة وحنكة بالغة تقي صاحبها الانزلاق في متاهات خلط الثابت بالمتغير والاستراتيجي بالتكتيكي.. وهي التي تعطي صاحبها بصيرة ثاقبة تجعله يميز الخط الأحمر دائماً مهما تكاثرت الخطوط وتعددت ألوانها.
ولأن التعامل مع السياسة ينبع من طريقة فهمها وإدراكها والغاية منها، فإن المواقف الصادرة عن المشتغلين فيها غالباً ما تتماشى مع الرؤية الذاتية للعملية السياسية، ويختلف ذلك في واقعنا تبعاً للمدارس التي تُدرِّس فنّ السياسة وإدارة اللعبة السياسية.. فهي في كثير من دولنا المبتلاة بالطغاة والمستبدين تعني فنّ ترويج الشعارات الكاذبة الطنّانة، والدعايات الفارغة الرنّانة، وتعني أيضاً فنّ تمرير الأضاليل والأكاذيب على الشعوب المغلوبة على أمرها، وهي في جانب كبير منها فنّ قلب الحقائق والتطبيل والتزمير للحاكم بأمره، فيما هي للمشتغلين فيها فنّ المحافظة على المكتسبات الذاتية وتنميتها وزيادتها قدر الإمكان وإن ترتب على ذلك الإضرار والمساس بأمن ومستقبل ومصير تلك البلاد وبيعها بثمن بخس في سوق النخاسة الدولي!
أمّا في الكثير من دول الغرب فهي تعني في كثير منها فنّ تثبيت النفوذ وحفظ المصالح خلال المواجهة مع الدول المكافئة وزناً وحجماً، وهو أيضاً فنّ إيقاع الدول الضعيفة في الشباك المنصوبة لها لاستنزاف طاقاتها وخيراتها وإجبارها على الدخول ضمن الفلك والمدار المحيط بتلك الدول المستقوية سواء كان ذلك عبر سياسة فردية ذاتية أو من خلال تكتلات أو تجمعات أو اتحادات تجمع عدة دول تتقاطع سياساتها كمنظومات مهيمنة على قرارات ومصائر الدول المستضعفة.
ولنا أن نتخيل حال الإسلاميين الذين يخوضون صراعاً حقيقياً في كيفية تعاطيهم مع السياسية وإدارة اللعبة السياسية من أجل فرض واقع جديد يقبل بوجودهم نداً قوياً يفرض احترامه على جميع الأطراف الحاضرة بما فيها تلك المسماة بالقوى الكبرى صاحبة النفوذ والقرار.
يتمثل ذلك الصراع في مواجهتهم الحتمية مع رموز الاستبداد وأذيالهم داخل بلادهم من سياسيين وإعلاميين ومفكرين ومنتفعين وغيرهم، هذا من جهة، وفي خوضهم من جهة أخرى معركة حامية الوطيس مع دهاقنة المكر والخداع العالمي التي تتربص بهم وترقب صعودهم بريبة وخوف كبير على النفوذ والمصالح التي يحرسها لهم طغاتنا وحكامنا المستبدون.
ولعل أخطر من ذلك كله موازنة الاجتهادات الصادرة عن المتصدرين للعمل السياسي التابعين لنفس الجهة والعمل الدؤوب على تصويبها وتسديدها أولاً بأول كي لا تختلط الأوراق وتتباين الرؤى وتضل البوصلة عن الاتجاه الصحيح وهو ما قد يستدعي إجراءات مؤلمة أحياناً.
وفي حالة القضية الفلسطينية التي تعتبر القضية الأعقد سياسياً خلال قرن مضى وقرن حاضر نعيش فيه، وهي القضية التي تعدّ بحقّ بؤرة الصراع المركزية بين الحضارات بمفهومها الاصطلاحي الإنساني، استطاعت حركة "حماس" أن تتبوّأ مكانة بارزة وتضرب مثالاً يحتذى في إدارة العملية السياسية باحتراف بالغ تجنبت فيه مطبات عديدة وفخاخ كثيرة نصبت لها في طريق صعودها، وتمكنت أن تفرض نفسها رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال، ومن خلال تجنب الدخول في محاور وأفلاك دولية وانتهاج سياسة خاصة بها، حققت الحركة ما وعد به زعيمها وقائدها خالد مشعل عندما قال عقب اكتساحها لمقاعد المجلس التشريعي في دمشق السبت 28 جانفي 2006 إننا سنري العالم سياسة جديدة وذلك بعد تأكيده بأن حماس "لا تخضع للضغوط بالنسبة إلى مسألة الاعتراف بإسرائيل لأن الاحتلال لا شرعية له ولن نتخلى عن حقوقنا".
إنها السياسة القائمة على احترام الذات إلى أقصى الحدود، ورفض الابتزاز من أي جهة كانت، والتمسك بالثوابت إلى أقصى مدى، وعدم الرضوخ للترغيب والترهيب لأجل التنازل عن أي من تلك الثوابت، وهو ما أدخلها في محن لا حصر لها، وجعلها كقارب يخوض عباب محيط هادر، وربّانه يصرّ على الوصول إلى برّ الأمان بأقل الخسائر الممكنة.
في كل تلك المراحل كان الضغط الأكبر على قادة حماس سياسياً من أجل إبداء أي مرونة حيال الاعتراف بالكيان الصهيوني كما حصل مع حركة فتح ومنظمة التحرير، غير أن الحركة أبدت تمنعاً شديداً، واستشرس قادتها في تثبيت الرفض التام والمطلق لذلك، وبأشد اللهجات حتى غدا موقفها نشيداً يتردد على الألسنة والأفواه لا يخلو أي مهرجان لانطلاقة الحركة منه: قال القائد إسماعيل هذا النهج ولا تبديل لو خضعت كل الدنيا لن نعترف بإسرائيل.. وذلك في إشارة لمقولته الشهيرة في أحد المهرجانات المركزية الحاشدة: لن نعترف، لن نعترف، لن نعترف بإسرائيل. ومعه تردد صدى كلمات "أبو الوليد" خالد مشعل غاضبة ملتهبة مهددة متوعدة: فشرت (إسرائيل)، فشرت.. والله لن نعترف بها. ولم تكن تلك مجرد شعارات تتلاشى خلف كواليس اللقاءات مع المبعوثين الغربيين والإعلاميين المبتعثين لغرض واحد: اقتنصوا أي لهجة مرنة حيال الاعتراف بالكيان الصهيوني وحاولوا إيقاعهم في حبائلكم كي تحصلوا على أي تصريح يمكن أن يفسر بأنه خطوة تجاه ذلك الأمر.. غير أن ذلك لم يحصل مطلقاً وما زاد القادة إلا تأكيداً على رفض شروط "الرباعية" المتضمنة الاعتراف بـ(إسرائيل).



مخلص برزق

من نفس القسم دولي