دولي

"إسرائيل" والإرهاب وسؤال المصير

القلم الفلسطيني




يقول التاريخ الممزوج بالأسطورة أن اسبرطة كانت تتفوق عسكرياً على منافستها أثينا بما لا يقاس.. بحيث أن بضعة محاربين اسبرطيين، ممن رضعوا فنون القتال مع حليب أمهاتهم، كان بوسعهم سحق مئات من الأثينيين المستغرقين في التأملات العلمية وصناعة القوانين والأشعار. لكن المواجهة الممتدة بين المدينتين اليونانيتين، انتهت بمحق اسبرطة وتخليد أثينا.
ومن التاريخ الحقيقي عرفنا أن الامبراطورية الرومانية آلت إلى التدهور والانحدار ثم إلى الأفول، جراء الإفراط في اعتماد لغة القوة واستعباد الآخرين (البرابرة!)، والتمييز بين السادة والعبيد.
في عهد أقرب إلى زمننا هذا، سقط النظامان النازي والفاشستي بسرعة قياسية، للأسباب والأمراض ذاتها التي نالت من النموذجين الاسبرطي والروماني قبل ألفي عام: العنصرية والغلو في الاعتماد على إرهاب القوة المادية العسكرية الطغيانية واحتقار القيم الإنسانية الأخلاقية والقانونية.
لا ريب في أن نخب الحكم والسياسة والتنظير الصهيونية على دراية بهذه المثلات والعبر. وهناك مؤشرات على أن هواجس المصائر التي آلت إليها نماذج الاستعمار الاستيطاني بالذات؛ لاسيما في المشرق العربي، لا تكاد تفارق أجفانهم. ونظن أنه لا توجد جماعة ما في هذا العالم الفسيح مشغولة بتفهم قضية قيام الدول وقعودها، ومحاولة استلهام دروس هذه القضية مثلما تفعل هذه النخب.
من انعكاسات هذه الظاهرة، صدور عدد من الدراسات التي تتضمن اعترافات بما صاحب قيام "إسرائيل" من آثام وجرائم بحق الشعب الفلسطيني، وتحسس سبل التكفير، ولو نظرياً، عن ذلك. لقد اضطلع من يوصفون بالمؤرخين الجدد بهذه المنهجية.
ونسج على هذا المنوال خلال العقدين الأخيرين، بعض دعاة السلام والتسوية مع الفلسطينيين؛ الذين لاحظوا صعود التيارات اليمينية الدينية منها والعلمانية، وطليعتهم قطعان الاستيطان والمستوطنين بتصرفاتهم الشيطانية.
الأمر الذي ساق بعضهم إلى رمي هذه التصرفات بالأعمال الإرهابية، والتحذير من عواقب تفشيها على سيرورة الدولة من الداخل وصورتها في الخارج، والدفع بضرورة تجريد مقترفيها من الحماية المسلحة والقانونية، من قبل أن يخرجوا عن الطاعة والسيطرة بالكامل.
لكن ما حدث أن مناورات الساسة والحزبيين الباحثين عن الأصوات الانتخابية، على غرار نتانياهو وبطانته، أدت إلى إغلاق الأسماع والأبصار عن هذه النداءات التحذيرية، إلى أن أوقع المتطرفون المجرمون "إسرائيل" الدولة بالفعل في أكثر من محذور.. فقد تجاوزت سلوكياتهم التعدي على الفلسطينيين بالقول والفعل، إلى التصدي أحياناً لقوات الجيش والشرطة وإيذاء قطاعات يهودية. وفى مناسبات بعينها، جأر ساسة ومتنفذون في أعلى مقامات الحكم بالشكوى من هذه الممارسات، واعترفوا غاضبين بسوء عاقبتها على حياة الدولة برمتها.
في كل حال، فإن التعامي عن هذه الإشارات الإنذارية أغرى المستوطنين، وبقية الشاردين حتى عن القطيع الصهيوني، بارتكاب المزيد من الجرائم. وفي لحظة فارقة، أعقبت واقعة إحراق الرضيع على دوابشة وأسرته، وقف معظم الإسرائيليين على الحقيقة التي حاولوا إنكارها طويلاً، وهي أن بين ظهرانيهم إرهابيون أقحاح من اليهود الأقحاح. يكذب نتانياهو وأعضاء حكومته حين يدعون بأنهم صدموا جراء هذه الواقعة. ويكذبون أكثر عندما يبررون الصدمة بالمفاجأة.
الحق أنهم كانوا يعرفون ويتغافلون. فإحراق الرضيع هو التطور الطبيعي جداً لسلوك المستوطنين المسلحين، الذين تسبغ الدولة حمايتها عليهم وتوفر لهم سبل الإفلات من العقاب والمساءلة.. بل وتمارس هي بعينها حملات شواء جماعية للفلسطينيين، على شاكلة ما جرى مع غزة العام الماضي.
بعيد واقعة الإحراق البشعة، كثر عدد الإسرائيليين الذين راحوا يرددون مفاهيم وتعبيرات لطالما أطلقتها منصتهم الدعائية ضد الفلسطينيين. فسمعنا من يتحدث عن الإرهاب اليهودي والمستوطنين الأشرار، وضرورة تطبيق الاعتقال الإداري والحبس الاحترازي على اليهود المتطرفين، وتجريد المستوطنين من السلاح ليكون في يد الدولة فقط.
أهم من هذا أن البعض هناك أطلق لبصيرته العنان، حتى آفاق التلميح إلى أن استمرار الحرب على الفلسطينيين وتأبيد احتلالهم، قد ينتهي بكارثة على "إسرائيل".. كارثة تضع وجودها موضع تساؤل، على اعتبار انها باتت تبتعد أكثر فأكثر عن المثل التي قامت عليها، وأصبح إرهابها يرتد إليها.
نحن بدورنا نثمن هذا المنحى الفكري العميق وننحاز إليه، وبخاصة حين نستحضر أسباب صعود الدول وأفولها.

د. محمد خالد الأزعر

من نفس القسم دولي