دولي
عن الذين لا يعرفون أعمارهم
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 24 جوان 2015
هناك في هذه الحياة من لا يعرفون أعمارهم على وجه اليقين، وبكلمة أدق لا يشعرون بأعمارهم على وجه الحقيقة، ويسكنهم أحساس عميق بالفقد والافتقار إلى شيء ما غامض، كان عليهم أن يمتلكوه أو يعايشوه، بيد أنهم حرموا منه، ثم إنهم وهم يتحسسون آثار الزمن في أجسادهم، ويئنّون لأوجاعهم الباطنة والظاهرة، وبالرغم من اليقين الذي تصرخ به حقائق الزمن في تضاعيف وجوههم، وترهّل أجسادهم وانحناءاتها، وتلف عظامهم. ومع أن مسافات الزمن الواسعة تنطق في نظرائهم الذين نهبوا الحياة نهبًا، وقفزوا فيها قفزًا، وأخذوا خطوات كبيرة بعيدًا عن هؤلاء الفاقدين، فإنهم كما بين الصحو واليقظة، في لحظة توتر دائمة تخلو من اليقين، وتظللها مسحة من كآبة ناجمة عن ذلك التوتر بين حقائق الزمن الملموسة والمسافة الشعورية الفاصلة عن الإحساس بها على وجه الحقيقة، أو على وجه الإيمان. أيُّ الناس هؤلاء الذين يعرفون أعمارهم معرفة ذهنية أكيدة، بيد أنهم لا يحسّون بها إحساس من عاش تعاقب سنواتها، وتبقى فيهم، في دواخلهم لحظة ثابتة، وكأنهم يثبتون فيهما كما تثبت فيهم، وكأنهم لا يودّون أن يعترفوا بكل ما تلاها من لحظات، فيذكرونها وكأنها حاضرة، أو يستعيدونها وكأنهم يعيشونها.. لحظة من الماضي يعيشونها في كل لحظة من الحاضر.. أيُّ الناس هؤلاء؟! إنّهم الأسرى المحررون، أو الأسرى المحبوسون خارج سجنهم، وهم صنوف وألوان، يعيشون مفارقتهم المزمنة، أو توترهم المقيم، كل على نحو خاص، ومنهم هؤلاء الذين سجنوا في أول طلعتهم، وفي سنوات الأساس التي يبنون عليها مستقبلهم، وقضوا عقد العشرينات من أعمارهم في السجون، مرة واحدة، أو داخلين خارجين، فإنهم يثبتون عند تلك اللحظة الثابتة فيهم، لحظة الطلعة الأولى على الحياة، لحظة الانطلاق التي حبست فجأة في قمقم السجن. قال لي أحدهم ذات مرة: "بلغت الثامنة عشرة في السجن، ويومها شعرت بحزن عميق، وحتى اليوم لم تخرج من نفسي لحظة ما قبل ذلك الاعتقال، هل كبرت جدًا؟ لست أدري!" يناضل بعضهم لأدراك ما افتقدوه، وتحصيل بعض مما خسروه، وهم في ذلك درجات، فبعضهم أكثر من غيره استسلامًا لتلك اللحظة الثابتة في داخله، فينزف من طموحه وآماله وتطلعاته وهمّته وقدرته على المبادرة كلما التصق بتلك اللحظة أكثر، حتى لا يكاد يبقى من ذلك كله شيء، فيعيش هذا المجموع مفارقته الثانية، فبعد أن أدرك مفارقات الحياة بالنظر إلى الذين لم يخوضوا تجربته من رفاق الصبا وزملاء الدراسة ومعارف الحياة، فإنه يدركها من جهة أخرى بالنظر إلى التفاوت الحاصل بين الذين عاشوا التجربة ذاتها، فذلك أكثر سعيا لتحصيل ما كان قد فقد، وهذا أكثر التصاقا بتلك اللحظة الثابتة. هؤلاء الأكثر التصاقا باللحظة الثابتة من ماضيهم ينزفون من المعنى أيضا، ذلك لأن معنى وجودهم في لحظة ما كانوا يجدونه في استهلاك ذواتهم في معنى كبير، في النضال، أو في الجهاد، أو في مشاعر البنوة أو الأبوة التي يمنحونها بإيمان ممزوج من الوعي ونقيضه لذلك الكيان الذي نشأوا فيه مجاهدين، حتى إذا كفوا عن الشعور بالبنوة أو الأبوة لذلك الكيان، أو كفّوا عن ممارسة الدور الذي كانوا يشعرون فيه بالمعنى الكبير، بدأوا بالشعور بشيء من اللاجدوى وافتقاد المعنى. إنهم لا يستطيعون العيش السليم دون ممارسة ذلك الدور، ولا يستطيعون في الوقت ذاته ممارسته بعدما أنهكتهم السجون وأثقلتهم خسائر الحياة، ويشعرون بخسارة أخلاقية عظيمة، وفقد متجدد لأعمارهم التي سبق أن فقدوها بصورة أخرى، إذا بدأوا بالنضال في سبيل الحياة هذه المرة، في سبيل حياتهم الخاصة.