دولي
بعد سنة... هل يتجدد العدوان على غزة؟
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 14 جوان 2015
51 يومًا متتاليًا عاشت غزة المحاصرة تحت نيران وقصف وتدمير غير مسبوق، حرق الأخضرَ واليابسَ، ودمر كل شيء إلا الإرادة والعزيمة، وفي المقابل لقَّنت المقاومة الفلسطينية عدوها دروسًا وعبرًا في إدارة فنون القتال حتى كان وقف إطلاق النار الذي جاء بعد مخاض دراماتيكي مقلق، تباينت فيه الانتماءات، وتعارضت فيه المصالح، وبدا كأنه وقف إطلاق نار مؤقت لم يفضِ إلى ولادة وقائع جديدة أو قبولٍ من الأطراف كافة بنتائج العدوان وملحمة الصمود الأسطوري. لقد جاء العدوان على قطاع غزة على شكل رغبة صهيوعربية في استئصال الأنموذج الموجود في غزة، على أساس أن ذلك نقطة ارتكاز لإنهاء مشروع ما يسمى "الإسلام السياسي" في المنطقة عربيًّا، وكذا الخلاص من صداع صهيوني مزمن اسمه "قطاع غزة" على أساس أن غزة هي التي أربكت الحسابات وأعادت رسم المعادلات، وقيضت التفاهمات من وجهة النظر الصهيوعربية، وزاد غرور الكيان الصهيوني شعوره المتزايد والمعلن أنه جزء رئيس من محور جديد يتشكل في الإقليم بصورة مفاجئة. وجاء هذا العدوان الهمجي على قدر متزامن مع الرغبة الصهيونية المتزايدة في إنهاء هذا الصداع باستغلال أسر وقتل الجنود في الخليل، والتدحرج المتسارع للأحداث مدخلًا للانقضاض على غزة وهي في أضعف حالاتها، إذ الغياب الرسمي عن إدارة شؤون غزة بغياب حكومة التوافق، وإدارة الظهر لغزة وأهلها، وما صاحب ذلك من إنجاز ورقي للمصالحة، وهذا لم يعجب الكيان العبري ومن لف لفه، ما دفعه لرفض التعاطي مع حكومة التوافق إفراز اتفاق المصالحة في الشاطئ في إبريل 2014م، ولاشك أن إغلاق مسار التسوية وإعلان انتهائه بشكل أو بآخر سبب مزيدًا من الاحتقان، إذ أصبحت كل الخيارات المطروحة من إفرازات (أوسلو) لا تلبي الحد الأقل من الأدنى في الحقوق الفلسطينية.
واكب ذلك بيئة إقليمية تدفع باتجاه فلسفة الاستئصال، إذ نشأت ظروف إقليمية جديدة لم تكن في عام 2012م، إبان آخر عدوان على غزة، ما سمح للكيان الصهيوني بمحاولة استثمار اللحظة بفقدان السند والظهير العربي للشعب الفلسطيني، بل أكثر من ذلك، محاولة استغلال علاقة حماس المتوترة مع بعض دول الإقليم ووصولها إلى طريق مسدود من أجل الفوز بالضربة القاضية، وشطب غزة وإنهاء حالة الصداع المزمن.
ومن هنا قد جاء العدوان على غزة في لحظة صعبة وقاسية على الشعب الفلسطيني، الذي يعيش مرحلة حصار ظالم غير مسبوقة، وواقعًا مريرًا على كل الأصعدة، حيث الرغبة العارمة من أكثر من طرف في استئصال هذا الأنموذج، واجتثاث هذا الكيان الذي يجسد المقاومة شاخصة منتصرة ثابتة.
ما زالت تداعيات ما بعد العدوان قائمة؛ فالحصار ما زال يضرب أطنابه في كل زاوية في غزة، والتحول فقط من حصار معلن إلى سبل إدارة هذا الحصار، والإعمار ما زال غامض الأفق (يراوح مكانه) في ظل رغبات الاسترزاق والخشية أن تعيد المقاومة بناء قدراتها، وما زالت المشاريع الكبرى كالميناء والمطار والممر الآمن في دهاليز الحسابات الضيقة.
ومن القضايا الكبرى التي تراود ذهن أبناء غزة، ويهمس بها أهل السياسة والفكر أن العدوان لم يتوقف بصورة بيّنة وواضحة، والخشية من تجدده قائمة، لذلك ترى هاجس تجدد العدوان البربري الشرس قائمًا.
إن القراءة المتأنية الموضوعية تقول: إن تجدد العدوان أمر مستبعد جدًّا، فالكيان العبري بدأ يشعر بعزلة جرائمه في غزة، وهذا يؤثر على اقتصاده تأثيرًا غير مسبوق.
أما داخليًّا فإن أمام الكيان العبري مرحلة عصيبة، إذ ثبت لدى قادة الكيان أنهم غير قادرين على الحسم الميداني، وهذا مخالف لما روّجوه سنوات، وما يمثله الكيان من قوة عسكرية مقارنة بغزة الخاصرة الرخوة الضعيفة المحاصرة.
يضاف إلى الصدمة التي تلقاها جيش الاحتلال في العدوان البري، وما مثلت من هاجس جديد سحق الأسطورة، وأذل الكبرياء، وقلب المشهد وبعثر المعادلات.
فالوصول إلى هدوء في الجنوب كان ثمنه باهظًا وفادحًا، وليس من السهل دفع مثل هذا الثمن مجددًا، وأكثر من هذا أن مؤشرات الدخول في حرب استنزاف كانت متوقعة في الأيام الأخيرة للعدوان كانت أمرًا مربكًا لحسابات قيادة الكيان، خاصة في ظل حكومة هشة يمينية، وقدرة الجبهة الداخلية على الصمود بعد أن حققت المقاومة قدرة على الإيلام والإرباك وإشاعة الرعب في صفوف الجمهور الصهيوني.
هذا فضلًا عن انشغال قيادة الكيان في المرحلة القادمة بلجان تحقيق تشمل القيادات العسكرية والسياسية، ومعالجة الثغرات التي حددت في معركة 2014م، والدخول في معركة تفاوضية لاستعادة الجنود المفقودين في غزة، وكذا معركتهم الكبرى في القدس والأقصى وتهويده وتقسيمه زمانًا ومكانًا.