دولي

فلسطين وأحمد الزند وشقاء الوعي المصري

 

لستُ واثقًا من وجود تصريحات جديدة لأحمد الزند، يتهم فيها الدكتور رمضان عبد الله شلح، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، باغتيال الشيخ أحمد ياسين، رحمه الله، حيث وجدت تصريحات للزند بهذا المعنى تعود إلى ثلاثة شهور على الأقل، أدلى بها في لقاء على قناة "صدى البلد" مع المذيع أحمد موسى المشهور بدعوته الجيش المصري لـ "دكّ أمّ حماس في غزة". ما دعاني للبحث عن تصريحات الزند هو استنكار الدكتور موسى أبو مرزوق أول أمس على حسابه على موقع "تويتر" لتلك التصريحات، بيد أني لم أجد سوى ذلك اللقاء المشار إليه آنفًا، الذي تحدث فيه الزند في سياق رفض حركة حماس لقرار القضاء المصري باعتبار كتائب الشهيد عز الدين القسام تنظيمًا إرهابيًا.وهو القرار الذي جاء عقب الأداء البطولي والمذهل للكتائب في حرب "العصف المأكول"، وهو ما يبدو أنه شكّل عامل استفزاز وضغط على مشاعر قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، إذ إنّ من الواضح أنّ رابطًا ما يجعله شديد الحساسية تجاه ما يتعرض له العدو الصهيوني من مقاومة فلسطينية باسلة، ولم يعد بالإمكان بعد سلسلة طويلة وعريضة من الإجراءات المفْرطة في عدوانيتها، استهدف بها السيسي مقاومتنا وشعبنا في قطاع غزة، إغفال هذا الرابط، أو إنكار الاحتمالات الخطيرة المتعلقة به. في تلك التصريحات، وبصرف النظر إن كان قد كررها بعد تنصيبه وزيرًا للعدل أم لا، لم يتحدث الزند فقط عن التورط المزعوم للدكتور رمضان عبد الله في اغتيال الشيخ أحمد ياسين، ولكنه تجاوز ذلك إلى إدانة الشعب الفلسطيني كله ببيع أرضه وعرضه، وانحرافه عن قتال "إسرائيل" إلى الاعتداء على مصر التي "خاضت أربع حروب لأجل قضيته"!هذه الإساءة البالغة للشعب الفلسطيني كافية لاتخاذ موقف من هذا الشخص، ومن النظام الذي نصبه بعدها وزيرًا للعدل، ومن الدولة المصرية التي اهتمت ومنذ نكبة الشعب الفلسطيني، بصياغة الوعي المصري على نحو يكرّس إدانة الشعب الفلسطيني، بما يخلي مسؤولية هذه الدولة عن مأساة الشعب الفلسطيني وزراعة الكيان الصهيوني في قلب المنطقة العربية، وبعد ذلك في منح هذا النبت الشيطاني والقائم على محض السرقة والتزوير والاستقواء بالظلم الغشوم والخيانة المفضوحة، الشرعية بواسطة اتفاقية كامب ديفد، ليعطي السادات ومن خلفه دولته كلها، من موقع من لا يملك الشرعية لمن لا يستحق، في حالة استمرار للمؤامرة الاستعمارية الموسومة بـ "وعد بلفور". في الأساس، امتلكت الدولة المصرية الأسباب ذاتها التي امتلكتها الدولة العربية، للتنصل من المسؤولية عن المأساة الفلسطينية، بالإضافة إلى أسباب مصرية صرفة، نابعة من التمركز المصري حول الذات، والذي تخلقت منه حالة شوفينية شديدة التشوه والغرابة والشذوذ، أوجدت بدورها شقاء مزمنًا للوعي المصري، وعنه تصدر خرافات الحروب الأربع، وتحويل الهزائم التي أفضت إلى احتلال فلسطين إلى مواطن للمنّ والأذى، وأخيرًا إلى البحث عنعنصر ضعيف يفرّغ فيه الوعي المصري المشوَّه شحنات شقائه للانسجام مع مقولات "العظمة المصرية" التي تصطدم مع حقائق الهزل والهشاشة والضعف والبؤس والخيبة، ومن ثم فليس هناك إلا الجار الفلسطيني المستضعَف لإثبات "عظمة الذات المصرية" عليه! هذه الحالة التأسيسية المصرية، التي تلتقي مع مثيلات لها في دول عربية أخرى، مع تفوق واضح للنزعة المصرية في إهانة الفلسطيني وتشويه قضيته وتزوير تاريخها، لم تساهم وحسب في الانحدار بمستوى الوعي المصري في المجالات كلها، بما جعل الرأي العام المصري قابلاً لتصديق أي خرافة مهما كانت مهينة للعقل، ولكنها أيضًا تحولت إلى البيئة القابلة لأي شكل من أشكال الخيانة، ما أوجد حالة شديدة التركيب والتعقيد، فالدعاية المصرية الرسمية تجاه القضية الفلسطينية جعلت المصري مستعدًا لقبول أي قيادة خائنة لقضية الشعب الفلسطيني، التي يفترض أنها قضية الأمة كلها، طالما أن ممارسات هذه القيادة تجاه القضية الفلسطينية لا تبدو غريبة عن الصورة التي جرى تصنيعها عن الفلسطينيين وقضيتهم طوال ستة عقود على الأقل. وفي حال كانت هذه القيادة تصدر في أفعالها عن ارتباطات عضوية خطيرة بالعدو الصهيوني، فإنها بدورها تجر أعدادًا هائلة من النخب المصرية، والفئات والشرائح الاجتماعية إلى موضع الخيانة، في الوقت الذي تعتقد فيه، تلك النخب والشرائح، أنها تقدم خطابًا وممارسة طبيعيين ناجمين عن الوعي السائد والمستقر تجاه الفلسطينيين "الخونة، الذين باعوا أرضهم وعرضهم، وخاضت لأجلهم مصر أربع حروب كانت سببًا في تدهور اقتصادها وانهيار تنميتها وتوقف نهضتها"! يمكن أن نتخيل بعد ذلك كل المفارقات الساخرة من هذا الوعي المطحون بين أوهام العظمة وبين حقائق الواقع المزري، حينما نتمعن في حقيقة هذا الشخص الذي يحكم مصر الآن، والموقع الذي جرّ إليه تلك الأعداد من النخب والشرائح والفئات المصرية، وإلى أي مدى تبدو هذه الدولة مهترئة ومخترقة وتعبث بها الأصابع الصهيونية بكل تلذذ وارتياح ولكن أيضًا بكل إذلال واحتقار!


ساري عرابي

من نفس القسم دولي