دولي

كارثة الإعلام العربي الجديد

القلم الفلسطيني

 

 

في أواخر سنة 2010 نشرت سلسلة مقالات تحت عنوان «الإعلام الحديث والفشل في إحداث التغيير» وقد تناولت فيها موضوع الإعلام الحديث من فضائيات وإعلام إلكتروني وما أحدثه من أثر في الساحة العربية، وأتذكر ردين أو رسالتين على تلكم المقالات؛ الأولى من أستاذ جامعي في مجال الإعلام نصحني بوضع المراجع والمصادر ونشرها في كتاب أو دراسة مجتمعة لا متفرقة، وطبعا أنا لم أفعل لأسباب عدة.والرد الثاني والرد عليها جاء من إحدى الإعلاميات الفلسطينيات التي رأت أنني على خطأ وأن الإعلام الحديث نجح وينجح في إحداث التغيير بدليل الثورة التونسية والتي ما لبثت أن تفجرت فور انتهائي من نشر سلسلة المقالات المذكورة، وقد كثر الحديث وقتها عن دور مواقع التواصل الاجتماعي خاصة فيسبوك في تفجرها وتنظيم فعالياتها، وأفرطت في تفاؤلها حينما علقت بأن الشباب قد صار لديهم إشباع من القضايا السطحية، وانتقلوا في تطور طبيعي-كما حكمت هي- إلى القضايا الكبرى بفضل الإعلام الحديث وراهنت أن المرحلة المقبلة ستثبت أنني متشائم أكثر من اللازم.أجدني مضطرا للعودة إلى الحديث عن الإعلام الجديد، خاصة أن السنوات التي تلت الثورة التونسية، ومقالاتي «المتشائمة» زادت المشهد الإعلامي بؤسا وقتامة؛ وكأنه لا يكفينا ما نحن فيه ليزيد هذا الإعلام من تلاوين فشلنا في شتى مناحي حياتنا؛ وإنني إذ أتحدث عن هذا الإعلام أعلم أنه حقيقة واقعة ومن السذاجة الدعوة إلى التخلي عنه ونبذه؛ ذلك أن هذا محال تقريبا، ولأن هذا الإعلام نعمة أسيء استخدامها، وليس شرا مطلقا بحد ذاته مثلما يخيل لنا، ويكفي أن الإعلام الحديث أنهى التحكم بمزاجنا وخيارتنا؛ حيث كنا ملزمين بنوعية وأوقات المواد المقدمة والتي كانت غالبيتها –عربيا- تتحدث عن تفصيلات تحركات الزعيم، بما فيها الأمور الشخصية،  ودوره الريادي، وهو ما عبر عنه الشاعر العراقي أحمد مطر في  لافتة من لافتاته «صاحب الضخامة محقان المفدى»...فلقد صار بمكنة الإنسان العربي أن يختار ما يريد من أخبار وتقارير ومنوعات...إلخ.لكن الصورة عربيا ليست وردية ومثالية، بل صار الإعلام نقمة بعدما كان نعمة، وأداة لنشر الجهل بدل العلم، والتعصب بدل التسامح، والفرقة بدل الوحدة، والتضليل بدل التنوير، وأنا لا ألقي الكلام على عواهنه، ولا أتحدث عما وعمن يشذ عن الصورة العامة للإعلام الذي نتابعه ويتابعنا!ويجب ألا يغيب عنا أن الإعلام الجديد لم يصلنا وفق سياق تطور طبيعي واستقرار سياسي، بل جاءنا حاملا إيحاءاته الكامنة، وفق عقلية الاستهلاك والربح، البارعة في نشر أنماط تفكير وسلوكيات معينة وفق سياسة الخطوة خطوة...فلم يأتنا التلفزيون والإنترنت بعدما برعنا فيما قبله وصار طبيعيا أن نأتي لما بعده، بل كنا متلقيا عبر السوق لكل جديد قبل أن نتقن استخدام القديم والأقدم وهكذا.فإذا كانت ترجمة فلسفة الإغريق في العصر العباسي، قد أحدثت أزمة وبلبلة، وهي-عملية الترجمة- التي جاءت ضمن حركة نهضوية علمية وفكرية متطورة طبيعيا، وفي ظل استقرار سياسي، ومنعة وقوة عسكرية، وعدم وجود أي حضارة منافسة لحضارتنا آنذاك في أي مكان على الأرض؛ فكيف بنا ونحن أمام هذا السيل الجارف من الإعلام بأدواته ومحتوياته وتأثيراته الظاهرة والباطنة، في وقت نعاني فيه الاحتلال أو الاستبداد أو الجهل أو الفقر وكل ما نعرف عن حالتنا ووضعنا؟ولو أننا أحسنا استغلال عوامل المقاومة الذاتية أمام هذا السيل لحولناه إلى صالحنا، ولصيرناه نهرا عذبا بمذاق مائه وجماله وبهائه؛ فالإعلام الجديد أو الحديث يستطيع إذا أحسن استغلاله إفادة العلوم والأفكار السليمة وتطوير المنظومة الثقافية والسياسية...ولكن «لو» هي المشكلة!إن الإعلام الجديد صار كارثة فوق كوارثنا، بل صار رديفا مؤازرا لكل قبح حولنا، وصار يعطي ذخيرة لكل الأمراض والمشكلات التي نعاني منها، وهنا لا أتجنى أو أعطي حكما على كل الإعلام الجديد عربيا، ولكن هكذا هي الصورة الطاغية على المشهد.فمثلا صار إعلام «التوكشو» أشبه بالسيرك،وصارت البرامج الحوارية أشبه بحلبات المصارعة وتبادل الشتائم، وصارت قنوات المنوعات مخصصة لعروض الأزياء والإيحاءات الجنسية.وصار الفضاء الإلكتروني والتلفزيوني مخزنا أو مكبا لكل التهم والألفاظ السوقية، ومرتعا للأوصاف المطلقة والقوالب الجاهزة غير المبنية على تحليل رصينكافر-تكفيري-خائن-تخويني-ظلامي-عميل-جاسوس-متصهين-صفوي-داعشي-مرتزق-غيبي-ناصبي-رافضي وغيرها من الأوصاف الجاهزة المعلبة هي ملخص ثقافة إعلامنا العربي الجديد مع بالغ الحزن والأسف.ولا يقع اللوم فقط على من يهرب نحو الترفيه والمباريات، أو حتى نحو المواد الإباحية، لأنه لا يرى مادة ثقافية جاذبة بالأسلوب أو المحتوى أو الاهتمام أو بكل ذلك، فهو ضحية كارثة إعلامية تبحر في مهزلة مستفزة؛ وحسبنا أن نرى راقصة أو مغنية تجلس أمام الكاميرا ويسألها السائل عن قضايا دينية وفكرية وسياسية، لا يسأل عنها إلا من هو أولى بها، فتفيض علينا بحكمتها وعلمها الغزير فترشدنا إلى أمور الدين والدنيا....هزلت والله!نحن أمام كارثة إعلامية عربية؛ فإعلام يجعل صاحب العقل والفكر النير يبدو مملا أو متهما في ذمته المالية أو الوطنية، ويظهر المتشاتمين والمتضاربين كأهل رأي وموجهين للجماهير وأن هكذا يكون الحوار عبر الفضائيات، وإعلام تكثر فيه الإشاعة والتدليس والتزوير متمثلا بمواقع التواصل الاجتماعي، يحتاج إلى مراجعة نقدية، والأهم التصدي لظاهرة إعلاء قيمة الربح في الإعلام على القيم والمكونات الدينية والثقافية لمجتمعنا...فهل يمكن إنهاء كارثة الإعلام العربي الآن؟!


سري سمّور


من نفس القسم دولي