دولي

غزة.. ثمّة صامتون عن مأساتها أيضا

القلم الفلسطيني:

 

كلّ ما يمكن أن يخطر بالبال من دلالات ودروس واستنتاجات يصلح أن ترفد به تلك الخلاصات المعقبّة على وضع غزة اليوم؛ الانتهازية والخذلان، العقاب والإماتة البطيئة، النذالة المطلقة والكيدية الفجة، الفجور مع أبناء العشيرة والوفاء لالتزامات العمالة، القهر بغية دفع عدواها ورد تأثيرها، مجون المتآمرين عليها وتقصير أنصارها في فهم أصل الداء أو تحديد التشعّبات التي يجري فيه. 

ليس شيئاً جديداً القول إن غزة تُعاقب على حسن بلائها في تأسيس مملكة الكرامة خلال الحرب الأخيرة وما قبلها، وعلى بناء دعائم اليقين بين جنباتها، وعلى تفوّقها على حدود طاقتها ومفاجأتها لحسابات الظانين بنواياها ظنّهم بعفن طويتهم هم، حين كانوا وما زالوا على استعداد لرهن وطن بأكمله مقابل فتات المصالح والامتيازات والتسلّط المسنود بحربة المحتل لكنّه أصبح مهمّاً التأكيد على أن قضايا مصيرية كرفع الحصار، والإعمار والكهرباء وحقوق جنودها العاملين ليست ترفاً منفصلاً عن حالة المقاومة الفذّة التي تأسست بين ظهرانيها، وإنه ما من مقاومة حالمة وخيالية يمكن أن تنتجها غزة بمعزل عن العوامل المفضية لها والمعينة على تطوّرها، ولذلك فإن كانت أطراف الحصار الأساسية المتمثلة في الاحتلال وسلطتي السيسي وعباس تتحمل وزر الجريمة الأكبر، فإن جزءاً آخر من الجريمة تتحمّله تلك الجموع من أفراد وفصائل تتقن التصفيق للفعل المقاوم أو تحاول ادعاء وصلٍ كبيرٍ به خلال المعركة، ثم ترتدّ إلى ذاتها وتكتفي بالتفرّج حين تكون مطالبةً بتسجيل موقف أخلاقي وعملي يساهم في تعزيز صمود غزة وعزل المتسبّبين بجوعها وظلامها واستمرار حصارها فصائل كثيرة استفادت من حكم حماس لغزة ومن رعايتها المقاومة فيها، لأن حماس لم تكن فقط تدير حياة الناس المدنية بما توفّر لها من إمكانات ضئيلة، بل كانت أيضاً تؤسس نواة مقاومة فذّة؛ منظّمة ومنضبطة وقابلة للتطور والتوسّع، وهو أمر انسحب على كل الفصائل التي تؤمن بالمقاومة، فأصبحت كلّها تمتلك تشكيلات عسكرية خاصة بها وسلاحاً وعتاداً ومعسكرات تدريب. وهي حقيقة قصّرت تلك الفصائل في الإقرار بها أو في الوفاء بالتزاماتها، رغم أن نظرة عابرة على واقع شقّها في الضفة كانت كفيلة بتفهيمها تركيبة المعادلة وكنهها ونبدو اليوم أمام مفارقة مريبة وغير مريحة حين نتذكّر لسان حال منظّري المعارك وهم يطالبون بوحدة الموقف المقاوم والتنسيق المشترك خلال الحرب، ثم حين تنقضي نراهم يعودون لمزاوداتهم المعهودة أو مواقفهم العائمة والاصطفاف في الأماكن الرمادية، وكأن وحدة الموقف المقاوم مطلوبة في مواسم بعينها ولا تنسحب على كل التفاصيل في غزة، مدنية كانت أم أمنية أم عسكرية أم اقتصادية. فكيف لهذا الكيان أن يظلّ منارة المقاومة وحاضرة الصمود دون أن يتعاون جميع المؤمنين بالمقاومة جمهوراً وفصائل على إسناده وإدارة شؤونه ورعاية جراحه، أو على الأقل التوحّد أمام فيلق المتآمرين والمتربّصين بإرادته الدوائر؟ لو كان هناك قدر ضئيل من الحرص على غزة، بما تمثل من رمزية وما تتطلب من احتياجات وأساسيات للحياة، لكان التعامل الجمعي مع المؤامرة عليها مختلفاً ولاختصر كثيرون من مدّعي الفهم الطريقَ على تبرّمهم وتباكيهم المكذوب، ولوضعوا إصبعهم مباشرة على سبب إغراق غزة بكلّ هذه المشكلات، بالاستفادة من أزمتها حيناً ومن تواطؤ الصامتين حيناً آخر وثمّة حاجة الآن للتخلي عن كثير من الأنانية قبل الاجتماع على اجتراح حلول لأزمتها، لكنّ المهم إدراك أن غزة لا تستهدف كمنطقة أو كشعب، بل كحالة بأكملها، بما تجسّد من رمزية ودلالة وطنية، وبما صنعت من معجزات وحققت من أحلام وعرّت من سياسات ومواقف. ومن يصمت اليوم عن مأساتها سيكون شريكاً أساسياً في ردم عيون الكرامة المتناثرة على رمالها، وفي هدم جدُر الاستناد فيها التي غذّتها الأعمار والأشلاء والدماء. 


لمى خاطر

من نفس القسم دولي