دولي
ما جرى هو "قتلٌ جماعي وجريمة نفّذها مجرمون لا يحترمون حياة البشر"
المرصد الأورومتوسطي يكشف تفاصيل غرق المهاجرين الفلسطينيين ويؤكد:
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 21 سبتمبر 2014
• دول أوروبية علمت بالكارثة في وقت مبكر وتجاهلتها للحد من تدفق المهاجرين
كشف المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان تفاصيل جديدة حول جريمة إغراق قارب المهاجرين في 10 سبتمبر الجاري على الشواطئ الإيطالية، والذي أودى بحياة أكثر من 400 شخصًا معظمهم من الفلسطينيين من غزة.
وأكد المرصد خلال مؤتمر صحفي عقده في غزة أمس الأحد بغزة، أنه "من خلال متابعة المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان لحادثة غرق السفينة المنكوبة والتي تحمل على متنها مئات المهاجرين الفلسطينيين والسوريين والمصريين والسودانيين وحملة الجنسيات الأخرى، شكل الفلسطينيون العدد الأكبر منهم، نقول إنها جريمة متعمدة ومقصودة".
طبقاً للإحصاءات المتوافرة والإفادات التي جمعها المرصد الأورومتوسطي من الناجين، فإن عدد المهاجرين عند الاجتماع في هذا القارب، والذي يتكون من طابقين، كان ما بين 400 إلى 450 شخصاً، منهم نحو مئة طفل، تكدس منهم نحو 250 في الطابق العلوي، و150-200 في الطابق السفلي. وأورد المرصد تفاصيل مثيرة في قضية إغراق المركب عمدا من قبل مهربين ووثق شهادات حية لناجين من جريمة البحر، مشيرا إلى تجربة سيئة مع السلطات الإيطالية والمالطية فيما يتعلق بانتشال الجثث، حيث رفضتا سابقا انتشال أكثر من 200 جثة لفلسطينيين وسوريين غرق قاربهم في شهر أكتوبر من العام الماضي. وطالب المرصد الحقوقي " بضرورة القيام بفتح تحقيق يتناول كافة الانتهاكات التي تخللتها الحادثة، بدءاً من الأماكن التي انطلق منها هؤلاء المهاجرون، والجهات التي تقوم بالاحتيال عليهم وإغرائهم بوعود غير حقيقية، إلى حادثة إغراق القارب عمداً، ثم تباطؤ السلطات في إنقاذ الناجين أو انتشال الجثث. وندعو الدول ذات العلاقة، إلى التعاون فيما بينها لكشف ملابسات انطلاق القارب ثم إغراقه، وتحديد المسؤولين عن ذلك وتقديمهم للعدالة. وشدد على ضرورة أن يقوم الاتحاد الأوروبي بتقديم المساعدة العاجلة من أجل العمل على انتشال الجثث، وضمان احترام حق الأسر في معرفة مصير أبنائها الذين غرقوا في البحر.
وقال المرصد أنه ومنذ كشفه عن الحادث عصر يوم الاثنين الموافق 15سبتمبر، خلايا عمل من طواقمه في القارة الأوروبية وفي المنطقة العربية لمتابعة حيثيات الحادث، مستفيدا من خبرته السابقة في التعامل مع حوادث الغرق والتي كان من بينها كارثة غرق مركب يقل مئات اللاجئين شهر أكتوبر الماضي على تخوم المياه الإقليمية المالطية والإيطالية انطلق من ميناء زوارة الليبي وحمل على متنه آنذاك المئات من الفلسطينيين والسوريين النازحين من سوريا. وأضاف أنه تواصَل ومنذ اللحظة الأولى للحادثة الأليمة وعلى مدار الساعة مع السلطات في كل من مالطا وإيطاليا واليونان، إضافة إلى الأجسام الدولية المعنية بقضايا الهجرة والإنقاذ وإدارة العمليات على الحدود الأوروبية، وعمل على تزويد المعلومات الدقيقة أولاً بأول لعوائل الضحايا والمؤسسات والجهات المهتمة.
وأوضح في بيانه " إننا وإزاء هذه الحادثة الأليمة وتداول الكثير من المعلومات المغلوطة، وتفهماً لمشاعر ذوي العائلات المكلومة، نضع بين أيديكم خلاصة ما لدينا من حقائق وفق ما حصلنا عليه من إفادات ومعلومات لحين الانتهاء من التحقيقيات الرسمية، نقف من خلالها على أبرز المحطات في هذه الحادثة، وأوجه القصور، والواجبات المنوطة بذوي العلاقة".
أولا: ما قبل انطلاق القارب:
فكرة الرحلة بدأت عبر وكالات ومكاتب سياحية في أماكن مختلفة، من ضمنها مكاتب في مصر، و"وسطاء" في غزة، تواصلت مع المهاجرين على أساس وعد بالوصول إلى أوروبا بسفن آمنة ومريحة، مقابل مبالغ مختلفة تراوحت بين ألفين إلى أربعة آلاف دولار. وقد اقتنع المهاجرون بالسفر في ضوء نجاح عدد من معارفهم في الوصول إلى أوروبا بنفس الطريقة، وتأكيد المكاتب بأن السفن آمنة ومجهزة جيداً. بدأ كل مهتم بالتجهيز للرحلة، وتدبير الأموال بكل الطرق، بما فيها بيع الممتلكات، والاقتراض، فعلى سبيل المثال، أمّن عدد من المهاجرين من غزة المبلغ من الدفعات التي دُفعت لهم لترميم أو إعادة بناء منازلهم التي دمرها القصف الإسرائيلي خلال الهجوم الأخير على قطاع غزة.
بعض المهاجرين هم مصريون، وبعضهم الآخر من السوريين الذين لجؤوا إلى مصر أو إلى ليبيا في الآونة الأخيرة. أما المهاجرون من أصول غزية وبينهم عدد من العوائل، فقد كان عدد كبير منهم متواجدا بشكل مسبق في العريش أو محافظات مصرية أخرى، فيما وصل عدد آخر عبر معبر رفح، إما تحت بند العلاج، أو إكمال الدراسة، أو حصل على تأشيرة إلى دولة ما، ومنهم من دفع 1500$ دولار للخروج من المعبر، بينما وصل عشرات آخرون عبر أنفاق بين الحدود المصرية وحدود قطاع غزة. بحسب ما أفاد ناجون، فإن المهربين يأخذون المال ويختفون، ثم يتصلون بعد أيام ويبلغون طالب الهجرة أن يلتقيهم في وقت ومكان محددين. عند اقتراب موعد الرحلة تم تجميع معظم الضحايا في مدينة دمياط، في شقق مفروشة، وساعة الانطلاق نقلتهم باصات كبيرة إلى شاطئ دمياط وشاطئ الإسكندرية، وهناك كانت "مراكب صغيرة بمحرك" في انتظارهم على الشاطئ لتقلهم إلى قارب آخر في عرض البحر.
انطلقت القوارب الصغيرة في الساعة العاشرة من مساء يوم السبت 6 سبتمبر 2014، واحداً تلو الآخر باتجاه القارب الكبير، وقد استغرقت الطريق معهم إلى القارب الكبير قرابة ساعة. طبقاً للإحصاءات المتوافرة والإفادات التي جمعها المرصد الأورومتوسطي من الناجين، فإن عدد المهاجرين عند الاجتماع في هذا القارب، والذي يتكون من طابقين، كان ما بين 400 إلى 450 شخصاً، منهم نحو مئة طفل، تكدس منهم نحو 250 في الطابق العلوي، و150-200 في الطابق السفلي. الركاب في القارب بينهم عوائل كاملة يحملون جنسيات مختلفة، حيث أن أكثر من نصفهم هم من الفلسطينيين، معظمهم من قطاع غزة، ومن فلسطينيي سوريا، إضافة إلى عشرات المصريين والسوريين والسودانيين وحملة جنسيات أخرى.
ثانياً: مسير المركب وحادثة الغرق:
بعد أن جُمِعَ كامل المهاجرين في المركب الكبير عبر القوارب الصغيرة بدأ المركب بالسير نحو وجهته، كانت الساعة 11:15 مساء السبت 6 سبتمبر. وبعد ساعتين من انطلاق رحلتهم عبر القارب الكبير، انتقل الركاب إلى قارب آخر بناء على طلب المهربين. ثم وبعد يوم ونصف من المسير، أي مساء الإثنين 8 سبتمبر، انتقل الركاب مرة ثالثة إلى قارب آخر، ليكمل طريقه بهم نحو إيطاليا، وهو القارب الذي غرق فيما بعد. أثناء الرحلة توقفت مضخة المياه، وقل ماء الشرب بدرجة كبيرة، ونفذ الطعام إلا القليل من التمور كانت بحوزة بعض الركاب. تقاسمها الركاب فيما بينهم، وكانوا يشربون الماء بغطاء العبوات، وعندما شح الماء بدرجة كبيرة أصبحت الأولوية في الشرب للأطفال. وفي عصر الأربعاء، طَلبَ المهربون من الركاب الانتقال إلى مركب آخر، للمرة الرابعة، وبدا للركاب أن المركب الجديد صغير (طوله 16-18 متر)، ومتهالك، فرفضوا الانتقال إليه. وحدثت آنذاك مشادة عنيفة بين المهربين والمهاجرين، ثم ما لبث المهربون إلا أن نزلوا على رأي الركاب - فيما يظهر - ووافقوا لهم على أن يكملوا المسير دون الانتقال إلى القارب المتهالك.
وبعد أقل من ساعة، ظهر فجأة قارب آخر صغير يحمل اسم "الحاج رزق - دمياط"،لمحه الركاب فقط على بعد 50 مترا منهم، وكان على متنه ما بين 5-10 أشخاص، وعند اقترابهم من قارب الركاب أخذوا يصرخون عليهم بلهجة مصرية.
ثم قام هؤلاء الأشخاص بصدم قارب الركاب لمرتين – ثلاثة مرات بشكل متعمد، رغم صرخات الناس والتلويح لهم بالأيادي والأقمشة، ما أدى إلى فتح ثغرة فيه، وبدء تسرب المياه إلى داخله، واختلطت مياه البحر بالزيت والوقود الذي كان يستخدم للمركب. انتظر الأشخاص على هذا القارب ليتأكدوا من غرق قارب الركاب فعليا قبل أن يغادروا، وقال الناجون إن هؤلاء الأشخاص ظلوا يلتفون حول القارب وهو يغرق، بينما هم يضحكون ساخرين.
يمكن الجزم- حسب بيان المرصد - بأن الحادث كان جريمة متعمدة هدفت إلى التخلص من المهاجرين في عرض البحر، ويظهر ذلك جلياً من خلال صدم القارب أكثر من مرة وعدم مغادرة القارب الذي قام بالصدم إلا بعد أن تأكد من غرق قارب الركاب.
وقع حادث الاصطدام قبيل زوال شمس يوم الأربعاء 10 سبتمبر 2014، وكان قد بقي للمركب أقل من 24 ساعة للوصول إلى وجهته حسبما أخبر المهربون الركاب. البحرية المالطية أكدت على أن المركب كان في المياه الدولية على بعد حوالي 300 ميل بحري (555 كلم) جنوب شرق مالطا عندما وقع الحادث.
ثالثاً: ما بعد الغرق: عمليات الإنقاذ، الناجون، والمفقودون:
أدى صدم المركب وإغراقه إلى غرق العشرات من ركابه فوراً، غالبيتهم من النساء والأطفال، ولم يتوافر عدد كافٍ من سترات النجاة. فيما ظل 100-150 شخصاً متمسكين بأطراف المركب وألواحه وهم عائمون على سطح البحر ينتظرون من ينقذهم بدون فائدة، فيما تسببت الرياح الشديدة والبرد والعطش في فقدان معظم هؤلاء لحياتهم غرقاً، وأصبح عدد كبير منهم جثثاً طائشة على سطح الماء. تماسكت مجموعة تقدِّر ب 20-30 شخصاً تقريباً، وتحلقوا حول بعضهم البعض حتى نهاية اليوم الثالث، لكنهم ما لبثوا بسبب ارتفاع الأمواج والرياح إلا وتفرقوا في دائرة قطرها 3 كيلومترات على الأقل. ومع نهاية اليوم الرابع، مرت طائرة أطلقت قنابل دخانية سوداء، وفقا لأقوال الشهود الناجين في اليونان، ثم غادرت دون أن تفعل شيئاً لهم. وبعد قرابة الساعة، مرت سفينة شحن تنقل حاويات، يعتقد أنها سفينة يونانية، وكان عليها طاقم فلبيني، أنقذت اثنين من العائمين على سطح الماء، فطلبا من طاقم السفينة البحث عن آخرين. واصلت السفينة البحث في المكان لمدة ساعة تقريبا، ونجحت في العثور على 5 أشخاص أحياء آخرين، ثم واصلت سيرها بعد أن أبلغت السلطات اليونانية بذلك. وبعد قرابة 8-9 ساعات، قدمت طائرة مروحية حملت الأشخاص السبعة الذين تم إنقاذهم، ونقلتهم جواً إلى مستشفى في مدينة "لاكاني" في جزيرة "كريت" اليونانية. إلا أن طفلا منهم عمره 9 أشهر توفي لاحقا. ونجا الستة الآخرون، وهم: طفلة سورية عمرها عامان، وفتاة سورية في ال19 من عمرها، ومصري ادعى في البداية أن اسمه حسام محمد، تبين لاحقا أن له اسما آخر، وثلاثة فلسطينيين، هم عبد المجيد نايف الحيلة، ومحمد هشام راضي، وشكري العسولي.
الشاهد "شكري العسولي"، أحد الناجين الستة إلى اليونان، قال في شهادته:"كنا قرابة خمسين شخصاً من الناجين، تجمعنا حول بعضنا على أمل أن تأتي لنا فرق إنقاذ. الليل والنهار يتعاقبان ونحن في بحر لا شاطئ له، ليلا المياه قارصة البرودة وفي النهار شمس تحرق الجلد.أعدادنا تتناقص. زميلي كان يمسك بجثة لكي يطفو على الماء فهو لا يعرف السباحة. ويضيف: "في مساء اليوم الرابع هاج البحر وتعالت الأمواج وتشتتنا، فيما بدت طائرات حربية في السماء وأطلقت قذائف دخانية غير مفهومة،وكان هناك بالون مطاطي على سطح البحر. ويكمل: "ظهرت باخرة تجارية ضخمة من بعيد، ذهبناإليها وأخذنا ننادي:Help.. Help،فأطفأت المحركات وألقت قوارب النجاة. تم سحب الناجين إلى السطح وقاموا بعمل إسعافات أولية، أخبرناهم بوجود آخرين، وبعد ساعة من البحث، كانوا قد نجحوا في إنتشال 5أشخاص آخرين فقط. ثم جاءت طائرة هليكوبتر حربيه تابعة لسلاح الجو اليوناني بعد 8 إلى 9 ساعات، ووجدنا أنفسنا في المستشفى بجزيرة كريت اليونانية – مدينة خانيا". اثنين آخرين من الفلسطينيين الباقين على قيد الحياة أُلتقطوا من الماء بواسطة سفينة شحن بنمية، كان أحدهما يرتدي سترة نجاة، فيما قال الآخر إنه كان قد تمسك بعوامة مع سبعة أشخاص آخرين بينهم طفل مصري حتى اليوم الثاني، إلا أنهم غرقوا جميعا بسبب الإرهاق، ونجا وحده بعد أن انتشلته السفينة. هذان الفلسطينيَّان هما خميس بربخ وشادي الجبري. وقد تم إنقاذهما إلى ايطاليا، حيث نقلا إلى مدينة Comiso في جزيرة صقلية الإيطالية. وهما محتجزَين الآن من قبل السلطات الإيطالية كشهود للحادثة. من جهتها السلطات المالطية أكدت نجاة ثلاثة فقط من ركاب السفينة، وعثورها على جثتين: إحداهما لرجل يبلغ من العمر نحو 50 عاماً، والأخرى لطفلة تبلغ من العمر نحو 3 أعوام.
نتائج عامة للناجين:
ثمانية فلسطينيين نجوا من حادثة غرق قارب المهاجرين (غير شرعيين) في مياه البحر الأبيض المتوسط الدولية يوم الأربعاء 10 أيلول سبتمبر 2014، بينهم اثنان يتواجدان حاليا في إيطاليا، وثلاثة في مالطا، وثلاثة في اليونان. نجا ثلاثة آخرون يتواجدون في اليونان، أحدهم مصري الجنسية، وفتاة سورية، وطفلة سورية. وفق الافادات المختلفة وملابسات الحادث، نستطيع الجزم بدرجة كبيرة وفاة معظم المهاجرين على متن القارب.
الجثث:
أكدت السلطات المالطية أنها قامت بتمشيط كل السواحل بالإضافة إلى إجراء عملية مسح كاملة داخل البحر للبحث عن مفقودين، دون العثور على أحد، ويفهم من ذلك أنها قامت بالتمشيط في حدود مياهها الإقليمية فقط دون أن تبذل جهدا أو تنسق من أجل البحث في المياه الدولية.
السلطات المالطية أكدت للمرصد وجود جثتين فقط في مستشفى مالطا الرئيسي وتم التعرف عليهما. وتواصلت طواقم المرصد مع السلطات اليونانية وخفر السواحل الذي أكد عدم وجود جثث لديها، باستثناء الطفل البالغ 9 أشهر.
عشرات الجثث شوهدت على مدار الأيام الأولى من قبل الناجين طافية على سطح البحر، ويسود الاعتقاد أنها لمن كانوا على متن القارب المنكوب، فيما لم تنتشل السلطات الايطالية أي جثة حتى الآن. وقد تم مخاطبة السلطات الايطالية واليونانية من أجل انتشال جثث الضحايا، إلا أنها لم تفعل. أكدت السلطات الإيطالية للمرصد وللسفارة الفلسطينية عدم وجود أي جثامين لديها لمفقودي الكارثة.
وؤكد المصدر أنه ثمة مخاوف من أن تكون سلطات بعض الدول الأوروبية، ولا سيما إيطاليا ومالطا، قد علمت بالكارثة في وقت مبكر وتجاهلتها للحد من تدفق المهاجرين. لم نستطع الحصول على إفادات حول وجهة أو مصير المهربين على قارب الركاب الغارق. وصفت المنظمة الدولية للهجرة الحادثة "بأكبر عملية إغراق خلال الأعوام الماضية، فهذه ليست حادثة، إنما قتلٌ جماعي في جريمة نفّذها مجرمون لا يحترمون حياة البشر".
سالم- أ/ ق- د