قضايا وأراء

بومدين وصدام والقذافي أمثلة

هذه هي النتيجة عندما ترحل القيادات التاريخية:

أ . د . علي الهيل- أستاذٌ جامعي وكاتبٌ قطري

 

 هذا المقال لا يُعنى بالضرورة بالأجندات الأجنبية أو المحلية التي ساهمت في ترحيل أو رحيل القيادات التاريخية عن بلدانها بقدر ما يُعنى بالنتائج المترتبة على الشعوب نتيجة رحيلها أو ترحيلها. بصرف النظر عن طبيعة القيادة التاريخية لأي بلد في العالم ديكتاتوريةً كانت أو غير ذلك؛ وبصرف النظر كذلك عن إتفاقنا أو إختلافنا مع قيادةٍ تاريخيةٍ ما- هذا المقال يُعنى أيضاً بالحياد في عرض الفكرة وتحليلها. الشاهد أنه عندما ترحل القيادات التاريخية غالباً ما تحل المصائب بالبلاد التي بطبيعة الحال يقتات الشعب من حصرمها. الأمثلة كثيرة. في الولايات المتحدة الأمريكية؛ عندما رحل أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية وأول رئيس لها (جورج واشنطن) دخلت البلاد في مشاكل عويصة وبلغت أوجها في الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب بقيادة الرئيس الأمريكي السادس عشر (أبراهام لينكولن.) في التاريخ المعاصر مثلاً؛ كان الرئيس اليوغسلافي (جوزيف تيتو) حريصاً على صلابة الإتحاد اليوغسلافي وعندما رحل تمزقت البلاد إرَباً إرَباً.

في العالم العربي؛ لا تختلف القيادات التاريخية عن غيرها في العالم. في الجزائر مثلاً؛ بمجرد رحيل (هواري بومدين) تخبطت البلاد وترنحت إلى أن دخلت حرباً أهلية طاحنةً بدءاً من 1988 ودخلت عشرينيةً سوداء ولا تكاد إلى الآن قادرة على الخروج منها بصورة نهائية أو مرضية على الأقل. نأخذ مثالاً ثانياً لعله الأهم وهو رحيل القيادة التاريخية العراقية بقيادة الراحل (صدام حسين.) لا أحد يختلف ربما على أن الرئيس (صدام حسين) كان يحكم العراق بالحديد والنار بَيْدَ أنه كان حديداً وناراً لصالح البلاد رغم كل سيئاته. لعلَّ كثيراً من العرب وبعض العراقيين أنفسهم لم يكونوا يسمعوا عن الخلافات الطائفية والدينية والإثنية والعرقية وكان الجميع عراقيين. كانت الزيجات – على سبيل المثال – تتم بين كل مكونات النسيج الشعبي العراقي من غير تمييز على أساس طائفي أو ديني أو عرقي أو إثني. مثلاً؛ أعرف شخصياًّ أكراداً متزوجين من مسيحيين كلدانيين أو يزيديين وشيعة من سنّة وهلمَّ جرّا وهي ظاهرة إجتماعية واضحة تعكس وحدة النسيج العراقي في الظاهر على الأقل. يندهش الكثيرون كيف أن رحيل أو ترحيل بالأحرى (صدام حسين) كقيادة تاريخية في 2003 قلبتِ البلاد رأساً على عقب- لدرجة أن كثيرين في العراق من كل الطوائف والأديان والأعراق والإثنيات لا سيما من غير المسيَّسين يتمنون عودة قيادة (صدام حسين) وبعضهم يردد أن نار صدام بردٌ وسلام وأماَّ نار الوضع العراقي الحالي فهي جحيم لا يُطاق.

صحيح كنا نعرف مثلاً أن في العراق عراقيين مسيحيين غير أن كثيرين منا لم يكونوا يعرفوا أنهم كلدانيون أو يزيديون أو آشوريون وكنا نعرف أن ثمة نسبة كبيرة من الشيعة ونسبة كبيرة من السنة ونسبة كبيرة من الأكراد ونسبة من التركمان لكن الخلافات بينهم لم تكن ظاهرة على السطح في الحد الأدنى؛ لأن القيادة التاريخية العراقية كما كان في (يوغسلافيا – تيتو) لم تكن إلى حد كبير تشجع على النعرات الطائفية أو الدينية أو العرقية وإنما كانت تركز على أهمية أن يُظهر الجميع على الأقل أنهم عراقيون فحسب. بعد رحيل القيادة التاريخية العراقية؛ تفاجأ الجميع تقريباً بتفاصيل وتعقيدات التركيبة السكانية وتلخبطت الخريطة الجيوسياسية والطائفية والعِرقية والدينية للعراق كله. فبعد أن كان الجميع عراقيين وكانوا يتعاطوْن مع بعضهم البعض على هذا الأساس (مختارين أو مكرهين) صرنا نسمع عن ألوان طيف عراقية تظهر في سماء العراق الملبدة بالغيوم لم نسمع عنها قطُّ من قبل كاليزيديين مثلاً. إذن؛ رحيل القيادة التاريخية العراقية كان بمثابة النفخة التي يبدو أنها طيَّرت كومة الرماد الهش ربما- التي كانت تغطي النار من تحتها فاندلعت النار لتأكل الأخضر واليابس كما نرى النتيجة كل يوم.

في ليبيا؛ تكرر السيناريو نفسه وأقصد به رحيل أو ترحيل القيادة التاريخية المتمثلة في شخص العقيد الراحل (معمر القذافي.) أمسك (القذافي) كغيره من الحكام الديكتاتوريين بتلابيب السلطة واستأثر بالثروة على مدى أربعين عاماً تقريباً وصرفها في وجوه كثيرة خدمت تطلعاته ربما أكثر من تطلعات الشعب الليبي. وكما حدث مع القيادات التاريخية التي ضربناها أمثلةً في هذا المقال عندما رحل شخص العقيد دخلت البلاد في فوضى وحرب أهلية طاحنة ضروس مجنونة مستمرة إلى هذا اليوم تنذر بتقسيم البلاد ولا يبدو أن المتصارعين على السلطة والثروة سيعودون قريباً إلى رشدهم. كما يحدث في العراق، (العقيد القذافي) الذي كان ممسكاً بالبلاد بقبضته الحديدية كان يضبط إيقاع مراكز النفوذ والصراع ولم يكن أحد يجرؤْ على حمل السلاح في وجه الآخر وبعد ترحيله أو رحيله النتيجة ماثلة لكل ذي عين.

في ضوء ذلك؛ يتبين مدى خَطل قيادات المعارضة السورية في الخارج التي لم تقرأ جيداً الخريطة السورية الداخلية عندما حرضت الجماهير في الداخل على الثورة ضد القيادة التاريخية السورية التي يمثلها الأسد الأب والآن الأسد الإبن. إفترضت تلك القيادات أنه لماَّ كانت الثورات الشعبية قد نحجت في تونس ومصر وليبيا قبل أربع سنوات إذن ستنجح في سوريا. كانت القراءة سيئة وخاطئة مائة في المائة. سوريا ليست تونس ولا مصر ولا ليبيا. سوريا معها حليف إقليمي قوي وربما نووي وهو إيران يحتاجه الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في مفاوضات برنامجه النووي ويحتاجه في العراق ويحسب له الغرب ألف حساب لأن إيران تجاوزت الخطوط الحمراء وطيَّرت صواريخ إلى الفضاء الخارجي وصنعت طائرات بدون طيار وصواريخ بعيدة المدى وأثبتت للغرب أنها رغم حصاره لها قادرة على التقدم. إضافة إلى أن روسيا تعتبر سوريا حليفها الإستراتيجي التقليدي في العالم العربي ولذلك لم تسمح بمرور أي قرار من مجلس الأمن الدولي ضدها. إلى جانب روسيا سوريا حليفها (حزب الله) الخارج من حربين مع “إسرائيل” إنتصر فيهما عليها بمعياريْ الحرب الحديثة- لم تستطِع “إسرائيل” إيقاف صواريخه ولم تستطِع بالقوة أخذ أسراها أو أسيريْها. الخلاصة لو أن السوريين في الداخل لم يستجيبوا لقادة المعارضة من إسطنبول ولندن وقبلوا بالواقع كما كان قبل الفوضى والدمار والقتل الذي يمارسه الجميع ضد الجميع والتزموا الحكمة القائلة: ” إنْ لم يكنْ ما تريد فأرِدْ ما يكون” لَما وصلنا إلى ما وصلنا إليه.

من نفس القسم قضايا وأراء