الوطن

التاريخ الثوري لازال لم يخرج عن الخطاب الرسمي الجاف

في الذكرى الـ 59 لاندلاع ثورة نوفمبر المجيدة مؤرخون يؤكدون لـ"الرائد":

 

القطيعة التي حدثت بين مهندسي الثورة خلقت قطيعة بين عامة الشعب والأسرة الثورية

يعود الحديث غدا الجمعة عن بيان أول نوفمبر 1954، الذي يأتي في ذكراه الـ 59 لاندلاع الثورة التحريرية، وتعود معه الأسئلة الجوهرية حول حقيقة الفجوة الموجودة منذ عقود خلت بين الأسرة الثورية فيما بينها وبين العلاقة الموجودة بين بعض أطراف هذه الثورة بعدو الأمس الذي أضحى صديق اليوم "فرنسا"، وهي الأسئلة التي رفضت شخصيات ثورية على مدار سنوات عديدة الردّ عليها بأجوبة شافية لكنها فضلت أن تدافع عن خياراتها في تلك السنوات من خلال مذكرات شخصية تركها بعض مهندسو هذه الثورة كسلاح لتحارب به تهم الذاكرة وتعيد من خلاله الاعتبار لشرعية تلك الخيارات، ومن خلال تصريحات يخرجون بها بين الحين والآخر لتؤكد على وجود صراعات عميقة تمتد لأكثر من نصف قرن من الزمن ومازالت لم تنتهي بعد وهو ما أكده باحثون ومؤرخون في حديث لهم مع "الرائد" حول الذكرى الـ 59 لاندلاع الثورة.

تتهم الأسرة الثورية، من خلال تصريحات مؤرخين والجمعيات الوطنية التي تهتم بالجانب التاريخي والثوري للجزائر والمدافعة عنه الساسة وأصحاب القرار في عدم الخروج من واقع الإصلاحات التي جاءت بها مبادئ نوفمبر على الشعب الجزائري، والاكتفاء بتحقيق مكاسب على حساب الذاكرة الجماعية لرجال الثورة، بالرغم من توفر المجال والوقت لهذا العمل منذ سنوات عديدة، حيث فضلت بعض هذه الشخصيات الفاعلة في هذا المجال شأنها في ذلك شأن الطبقة السياسية التعامل بصمت في كل ما يتعلق بالذاكرة الثورية، وتسابقت في التغني بشعارات وخطابات جافة لم تقدر على إقرار أسس الثورة وإخراجه من الخطاب الرسمي إلى أرض الواقع، فلا هي وفت لمبادئ هذا البيان ولا هي دافعت عنه.

يقول المؤرخ والباحث في الثورة الجزائرية، عمر بلخوجة، أن قبل الحديث عن الأبعاد التاريخية التي جاءت بها أسس ومبادئ بيان أول نوفمبر 54، وإن كانت قد جسدت على أرض الواقع بعد أكثر من نصف قرن، علينا أن نتخلص من الخطابات الجافة التي تأتي بالتزامن مع كل المواعيد التي تتعلق بالثورة التحريرية، طالما أن هذه الخطابات لم تتغير في المشهد الجزائري بالرغم من تغير الرؤساء والساسة الذين جاءوا بهذه الخطابات، فالنظام الجزائري حسب بلخوجة ومنذ الاستقلال لازال يبحث عن تحقيق أهداف بعيدة عن الهدف الذي جاءت به مبادئ نوفمبر، لأن القيادة السياسية التي جاءت مع بن بلة، هواري بومدين، الشاذلي بن جديد، محمد بوضياف، علي كافي واليامين زروال وصولا إلى عبد العزيز بوتفليقة، كان هدفها الوصول إلى الحكم أكثر من تحقيق مبادئ وأسس بيان نوفمبر التي كانت مبنية على احترام حقوق الشعب وحرياته وتصفية النظام الاستعماري وقد فشلت هذه القيادات كل بطريقته بعد جيلين كاملين"جيل ما قبل الاستقلال وجيل ما بعد الاستقلال"، عن الوصول إلى هذه المبادئ وإقرارها على أرض الواقع، فحرية التعبير في الجزائر لازالت تأخذ بمقاييس مضبوطة على مقاس القادة، وهو ما جعل الشعب يدفع ضريبة هذه المطالب التي تتعلق بشرعية من طالب بإقرارها ضمن ميثاق الثورة النوفمبرية المجيدة.

وأوضح المتحدث في سياق متصل، أن الجزائر في السنوات الأخيرة استطاعت حقيقة أن تحقق جزء من هذه الأهداف على الأقل على المستوى التاريخي والذاكرة الوطنية، ولكنها تبقى بعيدة عن مطالب الشعب الذي خرج في 1988 للمطالبة بتغيير في نمط الحياة السياسية والاجتماعية له ولدولته لكن هذه الحركات والأحداث لم تجعل السلطة تستفيد من تبعات هذه الأحداث بل على العكس تمام قبعت منذ ذلك الحين على تسيير مخلفات هذه الأزمة بدل إيجاد حلول جذرية لها، وهو الذي يدفعني اليوم_يضيف بلخوجة_، إلى التأكيد على أننا لازلنا لم نخرج بعد من أزمة 88 كما لم نخرج من الأزمة التي خلفها رجال الثورة والتي خلقت حالة من الاحتكار ميزت المشهد الجزائري منذ الاستقلال وإلى اليوم من خلال فئة الأسرة الثورية التي جزأت الشعب الجزائري إلى أسرتين أسرة محسوبة على العائلة الثورية وأخرى لا، واحدة استفادت من ريع هذه الثورة والأخرى أقصيت من هذا المشروع.

ودافع بدوره محمد عباد، رئيس جمعية مشعل الشهيد، عن خيارات الأسرة الثورية بعد الاستقلال التي فضل البعض منها عدم التطرق إلى أحداثها أو إلى الخلافات التي نتجت بين قادتها خاصة المجموعة التي هندسة لبيان وأسس الفاتح من نوفمبر 1954، حيث اعتبر عباد أنه وحفاظا على التاريخ وتجنبا لأي لبس قد يحدث بين هذه الشخصيات فضلّ العديد الصمت وعدم الإجهار بتفاصيل هذه العائلة الكبيرة التي يعيش عليها الجيل الحالي وستعيش عليها أجيال أخرى في ظل جزائر مستقلة على جميع الأصعدة، ونوه المتحدث في سياق متصل المهتمين بالتاريخ أن يقدموا ويؤرخوا لما اطلعوا عليه في أعمال ستكون عبرة لأجيال أخرى قادمة ستكون بحاجة للإطلاع على نضال أبناء شعبها، واستطرد المتحدث قائلا أنه وبعد 59 سنة من إقرار أسس ومبادئ بيان أول نوفمبر علينا أن ندفع بهذه المبادئ إلى الجيل الجديد ليأخذ منها العبرة وأن يعتبرها مرجعية في علاقاته بين وطنه والشعب أيضا خاصة في ظل وجود نقص على مستوى الأعمال التاريخية التي تؤرخ لهذه الثورة، والتي بررها عباد بأنها ترجع في بعض الأحيان إلى خيارات شخصية لهؤلاء أكثر منها خيارات تتعلق بأشخاص آخرين كانوا من صناع ومهندسي هذه الثورة.

وبالمقابل يؤكد محمد عباس الباحث والمختص في التاريخ، أن هذه المناسبة هي فرصة أخرى كي يطالب من خلالها المؤرخون على ضرورة إخراج الذاكرة الثورية إلى العلن مهما كانت تحمل بين طياتها، خاصة فيما يتعلق بمناسبة الفاتح من نوفمبر الذي يعد أكبر تحدي كان متاحا أمام الشعب الجزائري لقول كلمته ليس أمام المستعمر الفرنسي فقط بل أمام كل العالم، حيث أنهم وبعد سنوات من النضال السياسي قرر أن يدفع بعجلة التحدي إلى أقصى حدودها والتطلع لنضال آخر يضمن من خلاله تحقيق طموح الشعب وقد تحقق ذلك ليلة الفاتح من نوفمبر 1954 بالرغم من أن تخطيط هؤلاء الرجال الذين آمنوا بهذا الخيار لم يكن مرتبطا بهذا التاريخ لكن وبعد أن تسربت خطط مجموعة الـ 22 للعلن بشكل مفاجأ لم يكن هناك أمامهم إلا خيار واحد إما الدفع بالثورة للشعب كي يحتضنها أو العودة إلى النضال السياسي الذي لم يكن يجدي أمام الهيمنة التي فرضها المستعمر الفرنسي على الجزائريين، وإجهاض هذه المساعي التي تم التحضير لها على أكثر من صعيد.

واعتبر المحدث في السياق ذاته، أن خيار الصمت الذي ينتهجه البعض تجاه أحداث الثورة عليه أن يخرج اليوم إلى العلن فمرور أكثر من نصف قرن عن استقلال الجزائر يعد وقتا كافيا لذلك في نظره، خاصة وأنه يعتبر أن الخيار في عدم الإفصاح عن حقيقة مسار بعض الشخصيات الثورية سواء عن طريق كتابتهم لمذكراتهم الشخصية أو عن طريق عائلاتهم ورفقاء دربهم هو إجحاف في حق نضال شعب كان سببا في قهر أكبر قوة استعمارية في تلك الفترة التي كانت تعيش فيه غالبية الدول حروبا شرسة ضدّ الآلة الاستعمارية الفرنسية، وقد أعطتهم هذه الثورة الدفعة القوية ليسيروا على نهجها وعلى خطاها.

ويوضح خوجة، في سياق متعلق بالقضية، أنّ الساسة الجزائريون وحتى الطبقة المحسوبة على الأسرة الثورية لازالت لم تنضج بعد بالرغم من مرور 59 سنة عن إقرار بيان 1 نوفمبر ولعل صمت هذه الطبقة في الدفع بمشاريع إعادة الاعتبار للعائلة الثورية هو أكبر دليل على أن للتاريخ والنضال حسابات تمتد منذ أكثر من نصف قرن ولن يتم التخلص من عبئه، طالما لازال أبنائها ومهندسوها يعتبرون أن هناك أسرتي في الشارع الجزائري واحدة محسوبة على العائلة الثورية والأخرى بعيدة عنها، وأن تبعات هذه الفكرة خلقت بدورها قطيعة بين مهندسي الثورة فيما بينهم وخلقت قطيعة أخرى بينها وبين عامة الشعب.

خولة بوشويشي

من نفس القسم الوطن