الوطن

من غزة تبتدئ الحياة

رغم الحصار الإسرائيلي والتواطؤ الغربي والصمت العربي

 

 

الحلقة الأولى

 

 

بمجرد أن عبرت معبر رفح، انتابتني قشعريرة، هزة، رافقها شعور برهبة المكان، وقدسية الموقع، وعظمة الحدث ... لحظات ذهول في حضرة سيدتي أرض المقاومة والتصدي،"إنها غزة العزة ..؟"، كان هذا صوت أحد الزملاء الذي أرجعني من كينونة الذهول إلى واقع اليقظة ... كنت أعتقد أن الموت يسكن غزة، ولكني أدركت أن الحياة تبتدئ منها ... 

 

 

أتذكر حينما كنت طالبا في معهد الإعلام والاتصال بجامعة الجزائر في نهاية الثمانينيات، أنني أقمت مع زملائي في إطار لجنة النشاطات الثقافية الطلابية، التي كنت من المشرفين عليها، عدة معارض للتضامن ومساندة الشعب الفلسطيني في انتفاضته الأولى، كنا نجلب الملصقات من مكاتب الفصائل الفلسطينية بالجزائر، ونزاوجها بالأغاني الملتزمة لمارسيل خليفة وروائع الشاعر الفلسطيني محمود درويش، أقمنا أكثر من عشرة معارض طيلة أربع سنوات، ومازالت بعض ملصقاتها موجودة عندي حتى الآن، وأتذكر أن الإقبال عليها كان مميزا من قبل طلبة وطالبات المعاهد الأخرى، وكان بعض الطلبة والأساتذة وعمال الجامعة يعرضون تقديم تبرعات مالية لفائدة الفلسطينيين، فنوجههم إلى مكتب منظمة التحرير الفلسطينية... 

جالت في خاطري ملصقات أطفال الحجارة، وصرخات درويش وترنيمات مارسيل خليفة، وأنا أقطع الباب الفاصل بين مصر وغزة... كانت آثار العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، (بين 14 و21 نوفمبر 2012 ) مازالت ماثلة للعيان، ففي بوابة قاعة معبر رفح من الجهة الفلسطينية، قابلتنا بقايا سيارة قائد "كتائب القسام" أحمد سعيد الجعبري، الذي استهدفته إسرائيل واغتالته بصواريخ طائرات "ف 16"، في بداية العدوان الأخير. وفي قاعة المعبر رسمت لوحة جدارية لصور أطفال من الضحايا، وكانت بقايا الصواريخ التي استهدفت المدنيين في إحدى زوايا القاعة، شاهدة على عنف العدوان وهمجيته، فقد بلغ عدد القتلى 136، ما يقارب نصفهم من الأطفال وبلغ عدد المصابين بجروح أكثر من 941 شخصاً، بحسب المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان.

إنتظار ليس كالانتظار 

زيارة وفد حركة البناء الوطني، الذي كنت ضمنه كصحفي، كانت بهدف الوقوف على آثار العدوان، والتضامن مع الشعب الفلسطيني... وصلنا قطاع غزة مساء يوم الخميس 10 جانفي، بعد رحلة عبر البر دامت أكثر من 8 ساعات، جبنا خلالها صحراء سيناء انطلاقا من القاهرة، الإسماعيلية ثم العريش، وقضينا ما يقارب أربع ساعات أخرى في معبر رفح من الجهة المصرية في عملية إجراءات إدارية وأمنية بدت مملة... كان عدد المنتظرين في قاعة المعبر يتجاوز المائة شخص، أغلبهم من سكان غزة، وكنا وفدين جزائريا وآخر مصريا...

وخلال ساعات الانتظار، وزع صديقنا عبد الحميد، تمر"دقلة نور" التي جلبها من ورقلة، على معظم المسافرين العابرين نحو غزة، وعندما عرف"الغزاويون" أننا جزائريون، طبع الابتهاج ملامحهم، وعبروا عن ترحيبهم بنا، فمثلما للجزائريين عاطفة خاصة تجاه الفلسطينيين، فإن الكثير من الفلسطينيين لهم إحساس خاص تجاه الجزائريين، أحد الأساتذة الفلسطينيين في الجامعة الإسلامية في غزة، جاء خصيصا لاستقبالنا عندما علم أننا جزائريون، قال إنه كان ضمن هيئة التدريس في جامعة الشلف بالجزائر، في قسم الهندسة المدنية، كان يتكلم معنا بالعربية وكذلك بالفرنسية، التي ربما لم يستعملها منذ مدة، ذكر أنه مكث في الجزائر أكثر من خمس سنوات وغادرها في بداية التسعينيات. يأمل بتعاون الجامعة الجزائرية مع جامعة غزة، التي هي أعرق الجامعات في القطاع تأسست سنة 1978، وقد استهدف العدوان الإسرائيلي جناح المختبرات فيها، ودمره كليا، والآن يعاد بناؤه... 

نفس الشعور تجاه الجزائريين، لمسناه لدى أفراد المقاومة من "كتائب القسام" الذين زرنا أحد مرابطهم ومواقعهم المتقدمة، حيث أكدوا لنا أنهم "تعلموا من ثورة التحرير الجزائرية معنى الصبر والصمود والدفاع عن الوطن وهزم المستعمر"... ويسود الاعتقاد لدى بعض الغزاويين أن السلطات الجزائرية تحدثت مع السلطات المصرية في عهد الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك بخصوص التنازل عن الفوز في مقابلة كرة القدم بين الجزائر ومصر في إطار تصفيات كأس العالم 2010 بأم درمان بالسودان، لصالح مصر مقابل أن تقوم بفتح معبر رفح لسكان القطاع، ولكن النظام المصري رفض ذلك، هكذا يقول أحد الصيادين العاملين في ميناء غزة.

وقيل لنا إن المدة التي قضيناها عند دخولنا غزة، وهي أربع ساعات، مدة عادية لدخول أو خروج أي مسافر عبر معبر رفح، مقارنة بما كان في السابق، ولكن رغم انقطاع الكهرباء، وتعطل أجهزة الكمبيوتر، فإن الساعات الأربع، كانت أطول فترات الانتظار في حياتي وأشدها تأثيرا من حيث التوتر والقلق اللذين انتابانا، فالخشية كانت واضحة علينا من رفض السلطات المصرية دخولنا إلى غزة، أو بالأحرى، أن يتم رفضنا من قبل من يقف وراء منح تصاريح الدخول... فقد ساورنا الشك، خاصة أننا جزائريون، واعتقدنا بأن الإسرائيليين ربما مازالوا يتحكمون في المعبر بطريقة غير مباشرة على خلفية اتفاقية السلام "كامب دايفيد" التي وقعتها مصر في عهد الرئيس السادات 1978، أو اتفاق المعابر سنة 2005 - الذي يقول البعض إنه مازال ساري المفعول حاليا. 

أشهر المعابر وأكثرها تسييسا 

معبر رفح أشهر المعابر في العالم، يعرفه كل الناس، العرب وغير العرب... كان ومازال محل خلافات وصراعات سياسية بين إسرائيل ومصر، وبين مصر والسلطة الفلسطينية، ثم بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس، ووسط هذا وذاك، كان التدخل الإسرائيلي واضحا، والضغوط الأمريكية ظاهرة للعيان. فقد مر المعبر بعدة مراحل، حيث تناوبت على تسييره والإشراف عليه عديد الجهات، ففي سنة 1982، بعد انسحاب إسرائيل من سيناء، أعيد فتحه، وأخضع لإدارة سلطة المطارات الإسرائيلية. وفي عام 1994، تمت إدارته وفقا لاتفاقية القاهرة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في إطار اتفاق أوسلو، حيث تم إخضاع المعبر لتسيير إسرائيلي - فلسطيني مشترك، مع بقاء المسؤولية الأمنية في يد الإسرائيليين الذين منعوا عبور الكثير من الفلسطينيين. ومع الانتفاضة الثانية في سنة 2000 تم منع دخول المركبات، وبعد انسحاب إسرائيل من القطاع في عام 2005، تم إخلاؤه لأول مرة من الإسرائيليين إثر"اتفاق المعابر "بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية بوساطة الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، وقام الفلسطينيون (من السلطة الفلسطينية لرام الله) بتشغيل المعبر ظاهريا بمفردهم، ولكن واقعيا كان يسير وفقا لرقابة إسرائيلية وحضور لممثلين أوروبيين، كانوا يتابعون الحركة عبر غرفة خاصة موجودة في معبر "كرم أبو سالم" الإسرائيلي – الغير بعيد عن رفح - عبر الصور التي تلتقطها 30 كاميرا فيديو مثبتة في أرجاء معبر رفح... وعاد الصراع حول المعبر ليتأجج إلى أقصى درجات حدته منذ جوان عام 2007، تاريخ بسط سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، حيث تم تجميد اتفاق المعابر، فانزاح الحرس الرئاسي التابع للسلطة الفلسطينية وعوضه ممثلو حماس، ورحل المراقبون الأوروبيون، وتعذر الإسرائيليون بعدم وجود هيئة فلسطينية شرعية لإدارة المعبر، وتم إغلاقه من الجهة المصرية إلا للحالات الاستثنائية حتى عام 2009. وأصبح رفح ومازال منذ ذلك الوقت حلقة صراع سياسي بين مصر وإسرائيل، والسلطة الفلسطينية وحماس.

كنت أسترجع هذه المعلومات التي قرأتها عن المعبر، وتذكرت جدار برلين الذي فصل لسنوات عديدة ألمانيا الشرقية عن ألمانيا الغربية، وفي نهاية الأمر أزيح، وأصبح من التاريخ. تمنيت أن يصبح معبر رفح مجرد نقطة حدودية عادية، خاصة أن الوضع تغير في مصر...

على مشارف القدس 

المهم ... دخلنا غزة بعد أكثر من ثماني ساعات قطعناها عبر الطريق الصحراوي بسيناء من القاهرة في اتجاه غير بعيد عن بورسعيد، وبالضبط عبر طريق الإسماعيلية والعريش، وصلنا غزة ساعة الغروب، ضمن وفد من حركة البناء الوطني الجزائرية التي يتزعمها مصطفى بلمهدي، التي تزور القطاع للمرة الثانية، للتضامن مع سكانه والوقوف على عملية إنجاز بعض المشاريع التنموية التضامنية التي ساهمت ماديا في دعم إنجازها منذ العام الماضي.

وكانت ساعة ونصف ساعة أخرى، قضيناها من رفح إلى الفندق بوسط مدينة غزة عبر حافلة تابعة لإحدى شركات النقل في القطاع، كنا نتجه من جنوب القطاع إلى شماله، بمحاذاة مدن "خان يونس"، "دير البلح" ثم غزة، وبقيت أمامنا مدن أخرى هي "جباليا" و"بيت لاهيا" و"بيت حانون" في أقصى شمال القطاع، وهي المدن التي تتاخم حدود الأراضي المحتلة. على كل حال المسافات ليست بعيدة، وقطعها لا يتطلب سوى ساعات قليلة، كنا على مشارف القدس، فلولا الاحتلال الإسرائيلي لتوجهنا نحوها، حيث لم يعد يفصلنا عنها سوى 79 كم، أي بما يقارب ساعة وربع ساعة من الزمن... وهي قريبة لمن قطع أكثر من 4000 كم، وقضى أكثر من 20 ساعة في الطريق... تمنينا أن نصلي في مسجدها الأقصى، ولكننا اكتفينا بالصلاة في المسجد العمري.

الحياة لا تنتهي في غزة، فليست مدينة الجحيم أو الأشباح، لا تختلف شوارعها عن أي مدينة عربية أخرى في المنطقة، ولكن هناك ما يميزها عن غيرها، فللوهلة الأولى، تتبين أن أعمدة الإنارة العمومية غير موجودة فيها، فالكهرباء ليست متوفرة بكميات كافية، كما أن الطرق غير معبدة بطريقة جيدة نظرا لمنع الإسرائيليين دخول مادة الزفت. ويبقى أهم ما يميز المدينة حاليا هو مظاهر الدمار الذي خلفه العدوان الإسرائيلي الأخير، بنايات مهدمة، وأعمدة خرسانية منهارة، وماعدا هذا، فإنها لا تبدو مختلفة كثيرا عن المدن العربية الواقعة في المنطقة كالعريش المصرية مثلا، على الأقل من الناحية العمرانية وحركية التجارة، فمع اقتراب الساعة السابعة مساء،كانت حركة المارة والسيارات نشطة وكانت المحلات مفتوحة، لبيع المواد الغذائية والخضر والفواكه، إضافة إلى محلات أخرى مثل محلات بيع السيارات وغيرها ...عندما التقيت بالدكتور محمود الزهار، أحد القادة البارزين لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، ذكرت له أنني تفاجأت، ولم أكن أتوقع أن أجد غزة، مثلما رأيتها، فقال "البعض يتوقع أن يجد بلدا يعيش في خراب، وشعبا يتسول في الشوارع، ولكن الحقيقة غير ذلك". نعم شخصيا كنت أتوقع شيئا أقرب إلى توصيف هذا القيادي، ولكن واقع الأمر مغاير لذلك، فإرادة سكان غزة تفوق كل تصور، وعزة أهل غزة تفوق أي خيال، فالحياة لا تنتهي عند دخول غزة، بل تبتدئ منها، وسكانها يتأقلمون مع ظروف الحياة رغم صعوبتها... وقد كانوا يفعلون ذلك عبر الفترات التاريخية التي مرت بها المنطقة منذ القدم. 

وتشير المصادر التاريخية أن أول مرة ذكر فيها اسم غزة في مخطوطة للفرعون تحتمس الثالث (القرن 15 ق.م)، وبعدها بـ 300 سنة سكن الفلسطينيون المدينة، وفي عام 635 م دخلها المسلمون. ويوجد بغزة قبر الجد الثاني للنبي محمد صلى الله عليه وسلم هاشم بن عبد مناف، حتى أن البعض يطلقون عليها اسم "غزة هاشم"، وقد قمنا بزيارة المسجد المسمى باسمه، حيث يوجد القبر في بيت داخل ساحته.

كما تشتهر غزة بمسجد العمري، وهو من أقدم مساجدها وأكبرهم، بني في القرن الثالث قبل الميلاد، وكان معبدا بوذيا، ثم حولته الملكة "هيلانة" إلى كنيسة، وأنشأت نفقا يوصله بالبحر، ومازالت بوابة النفق موجودة حتى الآن في ساحة المسجد، فمسألة الأنفاق في غزة ليست مستحدثة. وبعد دخول المسلمين لها في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه، تحول إلى مسجد وسمي باسمه ومازال محافظا على شكل عمارة بنائه القديمة، الحجارة البيضاء والرخام. ويقع هذا المسجد في وسط غزة القديمة، بالقرب من سوق الزاوية، أقدم أسواق المدينة، وهو سوق يجمع بين محلات بيع الذهب من جهة، وبين عرض كل البضائع من الجهة الأخرى. ويشبه المكان، نوعا ما، حي القصبة العتيق بمدينة الجزائر العاصمة من ناحية ضيق شوارعه... صلينا صلاة الجمعة في هذا المسجد، وكان الخطيب، من مدينة خان يونس، وهو طبيب درس في الجزائر يرأس جمعية كافل اليتيم، ويتطوع بجمع التبرعات والمساعدات لليتامى وللمرضى المحتاجين، ومن الذكريات التي سأظل أحتفظ بها، أننا صلينا الجمعة وراء الصديق بوسعد الذي كان معنا ضمن الوفد وهو من مدينة تيزي وزو، اختاره الخطيب من بين الحاضرين ليؤم المصلين...

يتبع...

من غزة : عبد الكريم تفرقنيت 

من نفس القسم الوطن