دولي

الصهاينة وأولياؤهم بين إدوارد سعيد وعزمي بشارة

في بداية مسيرتي الأكاديمية بعد الدكتوراه، نشرتُ في إحدى الدوريات الأكاديمية الأميركية محتوى محاولةٍ تأمليةٍ في منهجية دراسات الدين عموماً، والإسلام خصوصاً، في الأدبيات الغربية، اشتملت، في جزء منها، على انتقادات حادّة للمفكر الراحل إدوارد سعيد. كانت فكرة الورقة تتفق، إلى حد ما، مع أطروحة سعيد عن تداخل السلطة والمعرفة، وجذور التعصّب الغربي ضد الشرق، وبالأخص ضد الإسلام، مع تساؤلٍ عما إذا كانت هناك نقاط التقاء بين المنهجية الغربية والرؤية الإسلامية. وفي هذا الإطار، قيّمنا نقد البروفيسور سعيد الاستشراق بأنه يشارك الأدبيات الغربية الاستشراقية بعض مرجعياتها المنهجية ومسلّماتها حول الدين. وهذا أضعف راديكاليّة نقده، وسهّل استيعاب مساهماته في المنظومة المعرفية الرسمية، بحيث أصبحت تدرّس في الجامعات هناك، جنباً إلى جنب مع الأدبيات التي تنتقدها، وفيما يشبه التكامل معها. وهذا جعل من هذه المساهمة "تطويراً داخلياً للثقافة الغربية"، وعنصراً ضامناً لاستقرارها، عبر تطهيرها من انحرافاتها. في حين أن هذه الثقافة تحتاج إلى نقد أكثر راديكالية. (لعلها مصادفة أن دورية "تجسير" التي تنشرها دار نشر جامعة قطر نشرت ترجمة عربية لهذه الورقة في عددها أخيراً هذا الصيف مع مقدمة من المؤلف  لا يمكن أن يُهاجم شخصٌ لشيء لم يفعله أو لم يقله، ولم يعلم بفعله إلا من الشانئين، كما أنه لا صلة له به

لم أكن قد التقيت إدوارد سعيد حين كتبت تلك الورقة التي أعترف الآن بأنها كان تنطوي على شيء من التحامل. ولكن لقاءنا بعد بضع سنوات من نشرها، واطلاعه عليها، لم يجعله "سعيداً" إطلاقاً. ولكن خلافنا لم يطل، بعد أن استمعت لتحفظاته في بداية الملتقى الذي جمعنا عشرة أيام في جامعة كامبريدج في منتصف التسعينيات، واستطعنا إقامة علاقة ودية، حتى إن المنظم الرئيس للملتقى أخذ يتندّر عن "قبلية العرب" (كان ثالثنا زياد بهاء الدين، ردّ الله غربته).

ولكن موضوع هذه المقالة اليوم هو ردود الفعل من الآخرين، فقد أثارت الورقة حينها عاصفة وصل إليّ رشاشها من ذات اليمين والشمال، فقد تعرّضتُ لهجمة عنيفة وأنا أشارك في مؤتمر أكاديمي في جامعة ييل، حيث اختار أحد المشاركين في المؤتمر أن يخصّص كل تعقيبه حول مداخلتي في المؤتمر لاقتباساتٍ من تلك الورقة، وتأويلات حولها، حتى كدت أصبح أنا موضوع المؤتمر. من جهة أخرى، دعيت إلى جامعات عدة، من بينها جامعة كاليفورنيا في بيركلي، من أساتذة تعرّفوا إلي عبر تلك الورقة!

ولكن أكثر ما حيّرني، كان رد الفعل "الصهيوني"، فبعد فترة من نشر الورقة، بدأت أتلقى دعوات للمساهمة في دورياتٍ، سرعان ما اكتشفت أنها تنتمي إلى منظمات يمينية موالية لإسرائيل. وقد بلغ الأمر أن أكاديمياً إسرائيلياً معروفاً شارك في أحد المؤتمرات التي كنت أقدّم فيها ورقة. وعندما كان يقدم ورقته، استشهد بفقرةٍ من كتاباتي، ثم رفع رأسه ليقول: "أعرف أنه يشارك معنا في هذا المؤتمر". وكان يجلس بجانبي وقتها المشرف السابق على رسالتي للدكتوراه، فعلّق يحثّني على التواصل مع الرجل، فرفضت. وفي نهاية المؤتمر، ونحن نتناول الغداء، جاء صاحبنا إلى المائدة حيث كنت أجلس، وأهدى إليّ حزمة من كتبه، وطلب التحدث معي. ثم أخذ يراسلني بعد ذلك لفترة بمقترحات حول التعاون، أهملتها كلها.

علمت فيما بعد أن القوم أعجبهم نقدي البروفيسور سعيد الذي جيّشت إسرائيل جيوشاً من أكاديمييها وإعلامها لمحاربته، حيث عدّوه أشد خطراً من الخميني! وبحسب أحدهم، فإن عام 1978 كان مفصلياً في تاريخ الشرق الأوسط، ليس لأن فقيهاً متجهّماً قاد ثورة، بل لأن أكاديمياً "متجهّماً" من جامعة كولومبيا كتب كتاباً! وقد أراد القوم استغلال النقد الذي وجهته لسعيد من منظور "إسلامي" في إطار حملتهم ضده. وبالطبع، لم أقع في ذاك الشرك. وقد توقفت عن توجيه أي نقد لإدوارد سعيد منذ ذلك الوقت، فلا يمكن أن يصطف العاقل مع الحملات الإسرائيلية، حتى لو كان أصحابها يرتلون القرآن ترتيلاً.

أكتب هذا لأنني في حالة من الاندهاش، لأن بعض من يسمون أنفسهم الإسلاميين قرّروا، في الأيام القليلة الماضية، قيادة حملة ضد أكاديمي "متجهم" آخر، هو صديقنا عزمي بشارة، مصطفّين في ذلك مع شياطين الإنس بكل أشكالهم، وفي مقدمهم معسكر إسرائيل، ومن هم شرٌّ منها من أهل النفاق والطغيان. وبالطبع، لا نعتقد أن عزمي بشارة وغيره من البشر معصومون أو ليسوا محصّنين من النقد. ولكن النقد يجب أن يوجّه إلى ما يقوله أو يفعله شخص ما، وبمستوى الفعل والقول، ولا يمكن أن يُهاجم شخصٌ لشيء لم يفعله أو لم يقله، ولم يعلم بفعله إلا من الشانئين، كما أنه لا صلة له به. 

بحسب بعضهم، كان عام 1978 مفصلياً في تاريخ الشرق الأوسط، ليس لأن فقيهاً متجهّماً قاد ثورة، بل لأن أكاديمياً "متجهّماً" مثل إدوارد سعيد كتب كتاباً!

السؤال الأهم: كيف تأتي هذه النقلة من اتهام فرد بعمل معين لا يرضى عنه موجّه التهمة إلى اتهامٍ بأن ما بدر من فردٍ جزءٌ من حملة منظمة لمحاربة الدين الإسلامي، بل وتمرير أجندة صهيونية؟ يا سبحان الله، كيف يستقيم هذا مع أجندةٍ تحارب أنظمة الاستبداد، وتدعم ضحاياها، وفي مقدمتهم قيادات الحركات الإسلامية وأعضاؤها؟ وكيف يستقيم هذا مع طرب إعلام النفاق والاستبداد لمثل هذا "النقد" الذي وجد في هذه الافتراءات ضالته، فهو من جهةٍ أظهر بعض من يسمّون أنفسهم الإسلاميين في أبشع صورهم من ناحية عدم التثبّت، وطعن من ناصرهم ضد عدوهم في الظهر، وإعطاء أبواق عبد الفتاح السيسي وشيعتهما ما يطربون له من تهجّم على بعض أهم منابر الإعلام الداعمة للحريات، والقليلة التي ما زالت تفتح بابها للمعارضين، وفي مقدمتهم الإسلاميون، فهذا تدمير مزدوج لصدقية الإسلاميين، ولصدقية المنابر التي يقفون عليها، ودعم للعدو وخيانة للحليف.

ويلاحظ أن الإعلام إياه وأبواقه دخلا على الخط، وأخذا يردّدان التهم المتناقضة من أن بشارة ينفذ أجندة صهيونية، وأنه راديكالي متطرّف يروّج الإرهاب! هذا مع العلم أنه لو كان مرضياً عنه من إسرائيل، فضلاً أن يكون منفذاً لأجندتها، لكان موضع احتفائهم واحتفاء كبارهم الذين يهرولون لتقبيل أيدي الصهاينة، والركوع والسجود بين يديهم.. شيء من العقل يا قوم.

نعود إلى إدوارد سعيد الذي ساهم في تقويض النفوذ الصهيوني في الساحة الأكاديمية الأميركية بأكثر مما ساهمت به الدول العربية مجتمعة (بإسلامييها وخصومهم!).

من نفس القسم دولي