دولي

فتح وحماس: إشكالية التوافق في مواجهة الضَّم

ابتداءً، لا بدّ من تقدير أي التقاء وطني فلسطيني، يؤسس ولو لبدايات تدفع باتجاه بناء الثقة، وإنهاء الانقسام، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، على أسس متينة قائمة على برنامج سياسي موحد، معتمد على الثوابت، ومحافظ على المصالح العليا للشعب الفلسطيني.

تفاؤل حذر:

وفي هذا الإطار، تأتي النظرة الإيجابية للمؤتمر الصحفي الذي عقده جبريل الرجوب أمين سر حركة فتح، وصالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في 2/7/2020 عبر تقنية الرَّبط عن بُعد (الفيديو كونفرنس)، والذي أكد على سعي أكبر حركتين فلسطينيتين إلى فتح صفحة جديدة، وإلى تبني استراتيجية موحدة في مواجهة مشاريع الضم الإسرائيلي لأجزاء من الضفة الغربية، وفي مواجهة صفقة ترامب. مع الإشارة إلى وجود تقاطعٍ سياسي فيما يتعلق بالحل المرحلي "حل الدولتين"، والاعتراف الضمني بسيطرة كل طرف على ما تحت يده، ورضا حماس عن أداء القيادة الفلسطينية على المستوى الدولي بشأن مواجهة الضمّ وصفقة ترامب.

في مثل هذه الظروف التاريخية والمفصلية التي تستهدف قضية فلسطين، فإنه لا بدّ من تشجيع المبادرات الوحدوية مهما كانت متواضعة؛ أو دون طموحات الشعب الفلسطيني.

هذه المبادرة تتحدث عن وحدة ميدانية في إطار الحراك الشعبي، وتعطي مجالاً لأنصار الطرفين للعمل السياسي والجماهيري في مناطق سيطرتهما في الضفة الغربية وقطاع غزة. في الوقت نفسه، فليس ثمة اتفاق على إنفاذ برنامج المصالحة، وليس ثمة برنامج سياسي موحد؛ كما أن التوافق على المقاومة الشعبية لا يعني موافقة فتح على المقاومة المسلحة. وقد حدث هذا التوافق المعلن بين الفصيلين الرئيسيين لكنه لم يشمل باقي الفصائل الفلسطينية؛ ثم إنه جاء في إثر عدد من التوافقات والاتفاقات التي أُعلنت في السنوات الماضية، والتي لم تجد طريقها للتنفيذ. وهو ما يبرر التفاؤل الحذر وبعض البرود الذي لقيه المؤتمر الصحفي لدى المتابعين والمراقبين وعموم الفلسطينيين.

خلفيات الحوارات والتوافقات السابقة:

من الناحية التاريخية وطوال نحو ثلاثين عاماً ماضية فإن لجوء قيادة المنظمة (قيادة السلطة وقيادة فتح) إلى خطوات باتجاه الحوار والمصالحة مع حماس، ارتبط أولاً بوجود استحقاقات تاريخية تريد القيادة من خلال "الوحدة" الحصول على "شرعنة" أو غطاء وطني لمساراتها، وأن تظهر وكأن ثمة "وحدة وطنية" تحت جناحها باتجاه القرارات التي ستتخذها؛ كما حصل مثلاً في الحوارات قبيل مؤتمر مدريد 1991 وقبيل اتفاق أوسلو 1993.

وارتبط من ناحية ثانية، بالرغبة بتقوية الوضع السياسي لقيادة فتح (والمنظمة والسلطة) وشروطها التفاوضية، وبمحاولة تجاوز الضغوط الخارجية التي تتعرض لها القيادة من خلال تصليب الموقف الداخلي الفلسطيني، مثلما حدث في الحوارات التي حدثت في أثناء انتفاضة الأقصى.

وارتبط أحياناً من ناحية ثالثة بالسعي التكتيكي لامتصاص أو تعويق قدرة حماس على العمل الأرض لتمرير برامج تسعى القيادة إلى إنجاحها، كما حدث في حوارات ما قبل انتخابات رئاسة السلطة والمجلس التشريعي الفلسطيني في سنة 1996.

وارتبط من ناحية رابعة بالسعي لـ"ركوب الموجة" والاشتراك في "اقتسام الكعكة" والتجاوب مع الحالة الجماهيرية وتدارك تراجع حجم الشعبية، خصوصاً عندما كانت حماس تُحقّق انتصارات كبيرة، وتحشر فتح في زاوية استحقاقات الوحدة أو مسار المقاومة، كما حدث في الحوارات التي تلت حرب 2008/2009.

وبشكل عام، فإن تجربة الحوارات تصبُّ في الاتجاه "التكتيكي" المؤقت، وفي حالة التقاطع المرحلي؛ مع استمرار حالة التعارض الجذري بين مساري التسوية والمقاومة، وإصرار فتح على استمرار الهيمنة على منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وصناعة القرار الفلسطيني، وإصرار الطرفين على استمرار السيطرة كلٍّ منهما على مناطق نفوذه في الضفة والقطاع.

تأكيد التقاطع التكتيكي:

قطعت قيادة فتح الشك باليقين عندما أكدت التزامها بمسار التسوية السلمية، والتزامها بالطرق السلمية في مواجهة صفقة ترامب ومشاريع الضم الإسرائيلية، واستعدادها للعودة للمفاوضات مع الطرف الإسرائيلي من حيث انتهت سنة 2014، بل وقبولها بدولة فلسطينية منزوعة السلاح مع تبادل في الأراضي مع الاحتلال. وتعهدت السلطة بمنع انطلاق عمليات للمقاومة المسلحة، ومنع انطلاق انتفاضة جديدة من الأراضي التي تسيطر عليها. وأخبر حسين الشيخ النيويورك تايمز في 8/6/2020 أنهم سيمنعون أي فلسطيني من تنفيذ عمليات انطلاقاً من أراضي السلطة، وأنهم سيجدون طريقة لإخبار الإسرائيليين (عبر وسيط) لإيقاف المقاوِم إن كان خارج مناطق السلطة، في حال توفر معلومات لديهم؛ وهو ما يعني عملياً شكلاً "معدَّلاً" أو "ملتفاً" من أشكال التنسيق الأمني.

على أي حال، ربما يكون لشكل التوافق الذي أُعلن عنه بعض الفوائد الميدانية في مواجهة مشروع الضم. ولعل حركة حماس سعت إلى تصليب موقف قيادة فتح وتقويته، والتعامل معه كنقطة بداية يمكن تطويرها؛ مع قطع الطريق على بعض المحسوبين على السلطة ممن لديهم استعدادات للتعامل "الواقعي" مع صفقة ترامب ومشروع الضم.

مخاطر ومحاذير:

في المقابل، فإن قيادة حماس يجب ألا تضع يدها في "ماء بارد" بعد هذا المؤتمر الصحفي. فأياً تكن "النوايا الحسنة" والتي ينبغي تشجيعها، فثمة مخاطر أو تحديات قد تنشأ عنها، أبرزها تنفيس حالة الاندفاع الجهادي المقاوم وتفريغه من محتواه، من خلال توقف حماس وخط المقاومة عن اتخاذ خطوات "منفردة" أو "راديكالية"؛ وضبط نسق ردود حماس تحت سقف التوافق مع فتح والتي لا تتجاوز الحراك الشعبي؛ وإعادة شدّ حماس إلى معايير السلطة وإضعاف إجراءاتها الميدانية بحجة حماية "الشراكة" وعدم إغضاب الطرف الآخر. وبالتالي تصبح كافة ردود فعل القوى الفلسطينية مما يمكن توقعه إسرائيلياً، ومما يمكن التعامل معه وتجاوزه، وهو ما قد يعني أن يتابع الطرف الإسرائيلي إجراءاته على الأرض ما دام "لن يسمع إلا جعجعة ولن يرى طحناً". كما تكمن الخطورة في الشعور غير الصحيح بـ"الرضا" عن الحالة الداخلية الفلسطينية والركون إلى الأمر الواقع، في الوقت الذي يستمر فيه الانقسام وترهُّل المؤسسات الرسمية الفلسطينية وانهيارها، وتعثُّر البرنامج الوطني، بينما تضيع الأرض والمقدسات.

وعلى ذلك، فالأولى بخط المقاومة إعطاء مثل هذه التوافقات مدى زمنياً محدداً لاختبار مدى جديتها ومدى جدواها؛ وامتلاك الجرأة لتجاوزها في لحظة معينة، باتجاه تفعيل خط المقاومة بأقوى تجلياته والمواجهة الشاملة الاحتلال ومشاريعه، والارتقاء إلى مستوى المرحلة التاريخية واستحقاقاتها ودفع أثمانها ومتطلباتها.

من نفس القسم دولي