دولي
الاحتلال الإسرائيلي وكورونا وانتقائيّة الأدوار
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 20 جولية 2020
يزداد انتشار وباء كورونا بين الفلسطينيين في الضفة الغربية، متمركزا في محافظة الخليل التي تعدّ الأكثر عددا، ثم القدس، وبعدها محافظات بيت لحم، ورام الله، ونابلس، فطولكرم فقلقيلية، ثم أريحا، فجنين، ثم سلفيت، فطوباس، فقد بدأ بالانتشار في كل المحافظات، وقد قاربت الحالات ثمانية آلاف، بوفياتٍ قاربت الخمسين. وتكاد السلطة الفلسطينية تفقد السيطرة الطّبية، وحتى غير الطّبية، فقد أعلن، قبل أيام، في محافظتي الخليل وبيت لحم، عن عجز في توفير المواد اللازمة للفحص، والتشخيص، وإن عادت وزارة الصحة الفلسطينية، لتعلن توفّر تلك المواد. ومع ذلك، يعدّ هذا مؤشرًا على محدودية الأجهزة الصحية على الصمود، إن استمر الانتشار بالوتيرة الحالية، أو إن ارتفع، لا قدّر الله.
وبالتوازي، يتزايد الشعور بالضيق والغضب في أوساط الناس والتّجار؛ من تردّي الأوضاع المعيشية والاقتصادية؛ نتيجة الإغلاقات المتكرّرة، والتراجُع الحادّ في الدّخل، والذي لم يستثنِ، لا موظّفي السلطة، بسبب العجز عن دفع رواتبهم، ولا العمّال الذين يعتمدون اعتمادًا كبيرًا على العمل داخل الأراضي المحتلة في 1948، ولا التجار الكبار، أو الصّغار الذين تنعكس عليهم المعطيات السابقة، من خلال النقص الحادّ في حركة البيع، ونقص السيولة، وأزمة الشِّيكّات الراجعة. فيما يواجه الجهاز الصِّحي الفلسطيني صعوبات، لا طاقة له بها، في سعيه إلى محاصرة الوباء؛ بسبب التداخل المستمر بين الفلسطينيين في الضفة الغربية، وإسرائيل التي تشهد عجزًا عن الحدّ من انتشار الوباء، على الرغم من إمكاناتها الاقتصادية والطبية التي لا تقارن بإمكانات الفلسطينيين المحدودة.
ترفض السلطة الفلسطينية افتئات الاحتلال عليها، وترفض فسح المجال له؛ ليعود، وبشكلٍ مباشر، وسافر، من باب الوباء
وقد بدأت أعداد الوفيات بالارتفاع، في صفوف الفلسطينيين الذين أصبحوا بين ناري الوباء والفقر (والجوع)؛ ذلك أن الحالة الاقتصادية كانت، أصلا، هشّة، ومتعثِّرة. وفوق ذلك، على الفلسطينيين أن يواجهوا مخاطر الضمّ الذي لا يبدو أن حكومة رئيس وزراء الاحتلال، نتنياهو، طوته. هذا الخطر الذي يعدّ استراتيجيًّا، بل وجوديًّا، بمعنى الكلمة؛ لأنه إنْ تحقَّق، سيحرم الفلسطينيين من أكبر مصادر غذائهم؛ وسيعني ذلك إضعاف صمودهم، ومزيدا من خنقهم، ومزيدا من التبعيّة للاقتصاد الاحتلالي.
وعلى الرغم من أن مخاطر هذه الحالة، وتداعياتها، يصعب توقّع انحصارها في اتجاه محدّد، فقد تكون ضد الاحتلال، وقد تتجلّى في انفجار الغضب في وجه السلطة الفلسطينية، وفق دورها الحكومي، أمنيًّا ورِعائيًّا، فإن إسرائيل لا تجد نفسها مسؤولة عن تلك الأزمة التي هي المساهم الأكبر في استمرارها. وبالطبع، ترفض السلطة الفلسطينية افتئات الاحتلال عليها، وترفض فسح المجال له؛ ليعود، وبشكلٍ مباشر، وسافر، من باب الوباء، وهي تدرك تحيُّنه هذه الفرصة، ولكن هذا الاحتلال هو الذي حال دون تطوّر السلطة الفلسطينية، لتكون دولة؛ بما تعنيه هذه الكلمة من استقلالية اقتصادية وفي سائر المجالات، من أهمِّها المجال الصِّحي.
ويمكن ملاحظة الفرق الناجم عن الاحتلال، بالمقارنة بين الضفة الغربية، والأردن الذي تعدّ إمكاناته الاقتصادية محدودة، بالمقارنة مع دول عربية غنيَّة، إلا أن السلطات المختصة فيه استطاعت أن تحقَّق قدرا ملحوظا من السيطرة على الوباء، ونجحت خُطط الدولة في محاصرته، ولعل قدرة الأردن على التحكُّم بحدوده كان من أهمِّ أسباب النجاح، في مقابل بقاء الفلسطينيين تحت رحمة الأوضاع في إسرائيل، وحاجتها إلى العُمَّال الفلسطينيين، علمًا أن رئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، يُتَّهم، الآن، بالفشل في إدارة ملفِّ كورونا، ويتصاعد الغضب العام من إدارته التي تسبَّبت في خسائر كبيرة لقطاعات اقتصادية في دولة الاحتلال.
والفكرة الجوهرية هنا، والآن، هي في الحالة الفلسطينية وعلاقتها بالاحتلال؛ إذ أصبح الفلسطينيون في منتصف الطريق، بلا إمداد، بل أصبحوا أشبه بالمحصورين في أقفاص، لا مقوّمات ذاتية للاقتصاد، إذ يحرم الاحتلال فلسطينيين مزارعين كثيرين، وأصحاب المشاريع، من أراضيهم، إما بالمصادرة، بذرائع عدّة، أو بالمنع من الوصول إليها، أو تقييد الوصول. ويجني الاحتلال، في هذه الحالة، الفوائد، ويتحلل من التبعات والمسؤولية، فهو يوفر أموالا وجهودا كبيرة، لازمة لتسيير الحياة، الصحية والتعليمية، وغيرها. وهو، في المقابل، لا يفي بالاستحقاقات السياسية المترتِّبة عليه، وفق الاتفاقات المبرمة.
أصبح الفلسطينيون في منتصف الطريق، بلا إمداد، بل أصبحوا أشبه بالمحصورين في أقفاص
وهكذا، كشفت جائحة كورونا الجائحة السياسية الأكبر، المتمثلة في رؤية دولة الاحتلال، ومعها الإدارة الأميركية، وهي أنه لا مشكلة كبيرة، أو ملحِّة، في استمرار هذه الحالة الفلسطينية، العالقة بين الاحتلال ووعود الاستقلال، سنوات مقبلة، أو حتى عقودا؛ دولة الاحتلال المنقسمة، بصفة إجمالية، بين تيَّارين سائدين؛ تيَّار متعجّل، يفضِّل الحسم، والإجهاز التامّ على أحلام الفلسطينيين بالاستقلال عنه، ويمثّله فريق نتنياهو، ومَن هم على يمينه، من الأحزاب الدينية العنصرية، وتيّار صهيوني يرى أنَّ الأكثر أمنًا، والأقل مجازفةً، الاستمرار في قضم الأراضي، واقعيًّا، وإماتة الفرص لإقامة دولة فلسطينية، على حدود 4 يونيو/ حزيران 1967، أو انتظار ظروف أكثر نضجًا للمُضيِّ في الضمّ، وفرض السيادة الاحتلالية على المستوطنات، ولعل الأقرب تمثيلا له الجنرال بيني غانتس، المتحالف مع نتنياهو.
ومن المسلّم به أنه ليس من الوارد المطالبة بعودة الاحتلال لحمل مسؤولياته، بشكل مباشر؛ لأن في هذه المطالبة ما يفيده؛ استراتيجيًّا، في التدليل على أحقّيته في كامل السيطرة على فلسطين، وعلى إلغاء الكيانية الفلسطينية السياسية، بوصفها النقيض الواقعي لكيانه الاحتلالي. ومقابل ذلك، من الإضرار والظلم انطلاقُ الفلسطينيين ودول العالم، ومؤسساته الدولية، من تصور (الاستقلال الفلسطيني) غير المتحقّق، فعليًّا، وتمكين إسرائيل، الدولة القائمة بالاحتلال، من إعفائها من مسؤولياتها، بوصفها دولة احتلال، بل من التسبّب في مزيد من القيود والتحدّيات، باستمراره في مشاريعها الاحتلالية والاستيطانية، وتقييد القدرات الفلسطينية، وفرص تطورهم؛ ما ينعكس على مجالاتٍ بالغة الحيوية والحساسية. وهي اليوم، حياة الفلسطينيين، وفرص تشافيهم.