دولي
عن "اللحظة" الإماراتية عربياً
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 11 جولية 2020
ثمّة شعور يقيني لدى ساسة الإمارات، ومستشاريهم، بأن بلادهم تعيش الآن "لحظتها" العربية. وأن الزمن قد دار دورته كي يحطّ رحاله على أبواب إمارة أبوظبي، بعد عقود من الانكفاء والهدوء والعزلة. وهو شعورٌ، بغض النظر عن واقعيته، تصاحبه قناعةٌ لدى المسؤولين هناك بضرورة استغلال هذه المرحلة من التدهور والانحطاط العربي، من أجل القفز وملء الفراغ الحاصل نتيجة انسحاب دول المركز (مصر والعراق وسورية) وانغماسهم في مشكلاتهم الداخلية. وهو أيضا شعورٌ مدفوعٌ بفائض من المال والغرور وانتفاخ الأنا، ثمة من يراه كافياً للعب دور قيادي وتاريخي في المنطقة العربية.
قبل أسابيع، نشر أستاذ جامعي، يوصف في الإعلام بأنه مستشار ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، مقالاً في صحيفة مصرية، يتحدث فيه عن "اللحظة الخليجية" في قيادة الأمة العربية. وهو يقصد تحديداً السعودية والإمارات. يكتب نصاً: "هذه لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر، وإن كانت هناك مجموعة من الدول قادرة وراغبة في قيادة الأمة العربية في هذه الظروف العصيبة فهي دول الخليج العربي، خاصة السعودية والإمارات، بالتنسيق مع مصر والأردن. دول الخليج العربي لم تتنطع لقيادة أمةٍ منهكة، فالراية والقيادة جاءت للخليج طوعاً ومهرولاً، قد جاءت لتبقى حتى إشعار آخر، لتحقّق مشروعاً حضارياً ونهضوياً وتنموياً عربياً طال انتظاره". وبعد أن فرغ الرجل من تقريع مصر والعراق وسورية ودول المغرب العربي ولومها لفشلها وانكفائها عن قيادة الأمة العربية، يرى أن دول الخليج العربي هي اليوم "مركز الثقل العربي الجديد، وتعيش لحظتها في التاريخ العربي المعاصر. هذه ليست لحظة المشرق العربي، ولا لحظة المغرب العربي، وليست لحظة مصر ودول حوض النيل، بل هذه لحظة الخليج". أما أسباب اعتقاد الكاتب بأن هذه هي لحظة الخليج، فلأن دوله لديها الغنى والمال الوفير والصناديق السيادية وناطحات السحاب .. إلخ. بالطبع، لم يقوَ رئيس تحرير تلك الصحيفة المصري على الرد على غرور الأستاذ الجامعي ونطاعته، وذلك رغباً ورهباً وتأكيداً لما ساقه من ترّهات. كما لم يقوَ أي كاتب أو مثقف أو صحافي مصري بالرّد على الرجل ليحفظ ماء وجه بلده. وهم الذين لا يتورّعون عن مهاجمة كل من ينتقد رئيسهم ونظامه، ويرفعون سيف الوطنية الزائف في وجه المخالفين.
لا لوم على ذلك الأستاذ الجامعي، فهو لا يقدح من رأسه، وما يقوله يعكس قناعةً متزايدةً لدى قيادات في الإمارات والسعودية، فقبل أيام سمعنا وزير الدولة للشؤون الخارجية في الإمارات، أنور قرقاش، يتحدّث مع رئيس أحد مراكز التفكير في واشنطن التي تتولاها أبوظبي بالتمويل السخيّ والرعاية، عن سياسات بلاده التوسعية في العالم العربي، وعن طموحاتها خارجه من خلال بناء شبكة علاقات وتحالفات دولية مع منظمات وشركات ودول، من بينها الكيان الصهيوني. وهو أمر لم يعد سرّاً، بل يبدو أنه بات مصدر فخر، بدليل نشره في الصحف الإماراتية والاحتفاء به إعلامياً، كما أنه يشبع شعور القوة الزائد (والزائف!) لدى ساسة أبوظبي، أو "إسبرطة الصغيرة" كما وصفها مسؤول أميركي سابق.
ومن قراءة تصريحات قرقاش وغيره من مسؤولي أبوظبي ومستشاريها وإعلامييها، يمكننا استشفاف ملامح تلك "اللحظة الإماراتية" التي تراود عقولهم وخيالهم، والتي تتأسس على ما يلي:
استخدام فائض المال وسيلة للسيطرة والنفوذ السياسي في البلدان العربية التي تمر بلحظة ضعف أو تفكك أو انهيار، كما هي الحال في مصر وسورية والعراق ولبنان وليبيا واليمن والمغرب. استخدام فائض المال لاختراق النخب السياسية واستغلال أوضاعهم الداخلية لتحقيق الأهداف السياسية للإمارات. استخدام فائض المال لشراء ولاءات النخب الإعلامية والدينية والفكرية والثقافية، من أجل خدمة الأجندة الإماراتية في المنطقة. استخدام فائض السلاح لدعم المرتزقة وأمراء الحرب وطالبي السلطة المنشقين عن دولهم ومجتمعاتهم، مثل محمد دحلان وخليفة حفتر والقيادات الجنوبية في اليمن، من أجل استخدامهم رأس حربة في تقسيم البلدان العربية. التحالف مع إسرائيل وخدمة أجندتها الإقليمية وإعادة التموضع العربي من القضية الفلسطينية، بحيث يتم تصفيتها من الداخل. تعزيز التحالف مع الولايات المتحدة عبر شراكات عسكرية واقتصادية، وتحقيق أهداف ساكن البيت الأبيض، ومحاولة شراء ولاءات أعضاء في الكونغرس الأميركي، ومراكز الأبحاث، وجماعات الضغط.
ليس عيباً أن يكون لدى أية دولة، ولو صغيرة حجماً وتاريخاً وشعباً وثقافة ووعياً، طموح سياسي، وأن تشعر بأنها الأقدر على قيادة غيرها من جيرانها. ولكن المشكلة أن يتجاوز هذا الطموح حدود المنطق والتاريخ والممكن والمعقول، وأن يكون مدفوعاً بأوهام وحساباتٍ خاطئة، وغير واقعية، مردّها فقط أن ثمة فراغا عربيا يجب ملؤه، بغض النظر عن كيفية تحقيق ذلك وبأي ثمن. أو بالاعتقاد بأن فائض المال والسلاح وناطحات السحاب وحدها شروط القيادة والنفوذ، أو أن التحالف مع العدو المحتل هو أقصر الطرق إلى الزعامة. كذلك لا يجب أن يكون تحقيق هذا الطموح على حساب مصالح دول أخرى، ومصائر شعوبها، ومن خلال انتهاك سيادتها. وألا يكون بشراء ولاءات سياسييها، وتفكيك جيوشها، وتدجين نخبتها. أو أن يعتقد سياسيو ومستشارو "إسبرطة الصغيرة"، أو غيرها، أن العالم العربي ينتظر بفارغ الصبر قدوم قيادتهم العالم العربي! فلم تقد مصر العالم العربي في الخمسينيات، بغض النظر عن مشكلات تلك القيادة ومآلاتها وكوارثها، بسبب فائض من المال والثروة، وكذلك لم يفعل العراق أو سورية. وإذا كانت هذه الدول الثلاث، بتاريخها وثقلها وموقعها وثقافتها ونخبها، قد فشلت فشلا ذريعاً في قيادة الأمة، فما بالنا بدولٍ لا تملك أياً من تلك المواصفات التي هي قطعاً لا يمكن صناعتها بالمال فقط؟ وما الذي سيجعل "قيادة" أبوظبي والرياض الأمة الآن مختلفة عن قيادة القاهرة وبغداد ودمشق منذ الخمسينيات وحتى الثمانينيات؟ ولماذا يصرّ ساسة أبوظبي على تكرار فشل من سبقوهم واجتراره؟ والأكثر من ذلك، على الرغم من مشكلات قيادة القاهرة وبغداد ودمشق الأمة، كان لديها حد أدنى من الكرامة والمسؤولية، فهي على الأقل لم تعقد تحالفاتٍ سرّية (باتت علنية وعلى عين التاجر كما يقول المثل) مع الكيان الصهيوني، كما أنها لم تنفق مليارات الدولارات على تدمير غيرها من البلدان العربية، كما هي الحال في اليمن وليبيا وسورية ومصر، ولم توظف مرتزقة من الشرق والغرب، لبسط سيطرتها ونفوذها خارج أراضيها.
وختاماً، أليس غريباً أن تتصادف هذه "اللحظة الإماراتية" مع "لحظةٍ إسرائيليةٍ" مشابهة تتمتع فيها تل أبيب بتأثير ونفوذ كبير في المنطقة لم تكن لتحلم به منذ تأسيسها عام 1948؟ أليس غريباً أيضا أن تأتي هذه "اللحظة الإماراتية" في وقتٍ يشهد فيه العالم العربي تمزّقاً وانقساماً وتدهوراً لم يحدث طوال القرن الماضي؟ إذا هذه اللحظة الإماراتية، وعلى عكس ما يدّعي ذلك المستشار، ليست لصالح العالم العربي، ولا لمصلحة شعوبه، وإنما هي بالأساس لصالح أطراف أخرى. كما أن استطلاعاً بسيطاً للرأي في العالم العربي، من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، سوف يكشف أن ما يسمّيها بعضهم "اللحظة الإماراتية" ما هي إلا مجرد وهم كبير في عقل ومخيّلة من يروّجونها من سياسييّ أبوظبي ومستشاريهم وإعلامييّهم. لذا، قليل من الحكمة والتواضع والواقعية يتحلى بها هؤلاء ربما يكون أفضل من تبديد الأموال في حروبٍ ومعارك ونزاعات خاسرة، قد تكلّفهم آخر درهم في جيوبهم.