دولي

الرواية الفلسطينية...بين منطق الدفاع عن الحق واختلاق الواقع بالإكراه (3)

بعد حقبة السبعينيات التي أحيت الرواية الفلسطينية، في الساحة الدولية والعالمية، أدت التراجعات والهزائم العسكرية التي تعرضت لها "م . ت. ف" في محطات لاحقة، لاسيما بعد خروجها من بيروت عام (1982)، وما تلاها من متغيرات في السياسات الدولية، خصوصا بعد حرب الخليج الأولى، إلى نشوء واقع دولي وإقليمي جديد، وضع الفلسطينيين أمام خيارات صعبة كشفت عن نزعة واضحة للقيادة الفلسطينية، للدخول باللعبة السياسية الدولية، والتعامل مع استحقاقاتها، دون الاهتمام بإعادة بناء عوامل القوة الذاتية، وفي مقدمتها خيار المقاومة بمختلف تعبيراته الكفاحية. بل شغل قيادة المنظمة هاجس تحويل الكيان المعنوي إلى الكيان الدولاني المنشود. لعل هذا ما يفسّر التوجه إلى إعلان استقلال فلسطين في الدورة (19) للمجلس الوطني الفلسطيني في (منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 1988)، وتسارع الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية مع (م .ت . ف) إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ورفع مستوى التمثيل الفلسطيني لديها إلى درجة سفارات، حتى وصل عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين إلى أكثر من مئة دولة.

المفارقة المؤلمة، أن هذا التطور الكياني، لم يأتِ في سياق ممارسة الفلسطينيين لحقهم في تقرير المصير، ولم يأخذ بعين الاعتبار أولوية تماسك الرواية الفلسطينية، والحفاظ على وحدة خطاب الرواية لدى الكل الفلسطيني، وتجنب أي مشروع أو مسلك سياسي يؤدي إلى إضعافها، على حساب محض الرواية الصهيونية مشروعيتها بلسان ممثلي ضحاياها.

مع توقيع اتفاق أوسلو عام (1993)، وبعد نشوء السلطة الفلسطينية، التي قامت على تهميش دور (م. ت .ف) اتضحت المخاوف والمخاطر الكبيرة الناجمة عن الاتفاق، ودوره الكارثي في العقود الأخيرة، لجهة إضعاف عناصر ومرتكزات الرواية الفلسطينية، بغطاء رسمي فلسطيني، حين اعترفت القيادة الفلسطينية بموجب الاتفاق بالدولة الإسرائيلية، وتنازلت عن 78% من أرض فلسطين التاريخية من جهة، وقبلت بإقامة دولة فلسطينية على الجزء المتبقي منها، دون أية ضمانات دولية وقانونية، تضمن إقامة دولة فلسطين واقعياً من جهة ثانية، فضلاً عن أثر الاتفاق في تكريس منطق السلطة، بدلاً من منطق التحرر الوطني ومتطلباته، ودوره في تفكيك وحدة الشعب الفلسطيني بين داخل وخارج، واستغلاله من قبل الاحتلال لمصادرة الأراضي الفلسطينية، واستكمال مشاريع تهويد القدس والضفة الغربية، وطمس قضية اللاجئين.

تشير تلك التحولات في صيرورة الكفاح الفلسطيني، إلى دور اتفاق أوسلو في إحداث أوجه الإرباك والالتباس التي حفلت بها الرواية الفلسطينية، في ضوء حصاده المرير، الذي أدى إلى تآكل الحقوق الوطنية، التي تشكّل عصب الرواية الفلسطينية.

بما أن الشيء يُبنى على مقتضاه، فإن قدرة الفلسطينيين على مزاحمة الرواية الصهيونية، في المحافل الدولية والعالمية، وتفكيك خطابها، وتفنيد ودحض أكاذيبها، يقترن لزوماً بمراجعة نقدية عميقة، لجوانب الخلل والقصور في أداء التمثلات الكيانية القائمة "السلطة الفلسطينية - م . ت. ف"، والتي تتحمل مسؤولية كبيرة، في انزياح الرواية الفلسطينية، عن عناصرها ومقوماتها، ومضامينها التحررية. إذ من الصعوبة البالغة اليوم، إنضاج مقاربة وطنية تمنح الرواية الفلسطينية آليات وديناميات الحضور والتأثير على المسرح الدولي، دون القيام بتلك المراجعة التاريخية، وإعادة تصويب الخطاب الوطني الفلسطيني، وتنقيح الرواية الفلسطينية مما اعتراها بفعل السياسات الرسمية الفلسطينية. بناءً عليه تبقى تصريحات قيادة السلطة ومنظمة التحرير، بوقف كافة الاتفاقيات والتفاهمات مع إسرائيل وأميركا، في معرض ردودهم على صفقة القرن، مجرد زوبعة في فنجان، طالما أنها لا تقوم على إعادة بناء رؤية وطنية شاملة، لديها استراتيجية واضحة، في إعادة بناء البيت الفلسطيني، ومعالجة الانقسامات والشروخ التي ألمّت به، كونها المهمة الوطنية المُلحة، لاستنهاض حوامل ومركبات القوة الذاتية، وتعديل الخلل الفاضح في موازين القوى.

يتلازم مع تلك الأولوية، الاستفادة من منجزات التجارب الدبلوماسية في المحافل الدولية، لاسيما التي حققت رصيداً كبيراً من اعتراف المنظومة الدولية بحقوق الشعب الفلسطيني، والاعتراف القانوني بدولة فلسطين. من أهمها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام (2012)، بمنح فلسطين صفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة. لكن لا يجوز بالمقابل تعويض الفشل في إدارة الشأن الوطني، في دائرة تمجيد تلك المنجزات وكأنها غاية بحد ذاتها. وهي معضلة لا يمكن إغفالها، مع تآكل الحقوق الوطنية على هذا النحو الذي نراه. الأمر الذي يطرح أيضاً العمل على تلافي جوانب الضعف والقصور في محطات الدبلوماسية الفلسطينية، التي اعتمدت على التجربة والخطأ، وعفوية ومهارات الأفراد، أكثر مما اعتمدت التخطيط الاستراتيجي، والعمل الجماعي والمهني للطواقم المتخصصة. لا مناص من أن أي إصلاح هيكلي في أداء السياسات الخارجية الفلسطينية، وعمل سفاراتها الموزعة في العالم، لا يستقيم دون إصلاح بنيوي في الواقع الوطني والسياسي الفلسطيني عموماً - كما تمت الإشارة إليه -، فمن غير المجدي على - سبيل المثال -، مخاطبة العالم بحقوق الشعب الفلسطيني، فيما تتجاهل القيادة الفلسطينية حقوق اللاجئين الفلسطينيين، وتنصرف عن معاناتهم الإنسانية، كما بدا في تعاملها مع محنة فلسطينيي العراق ولبنان، وكما تعاملت أيضاً مع نكبتهم الثانية في سورية. فيما تضغط الحكومتان الإسرائيلية والأميركية من جانب آخر، لتصفية دور (الأونروا ) باعتبارها الشاهد الأممي على قضية اللاجئين الفلسطينيين، ما يستوجب بذل جهود فلسطينية مُضاعفة في الساحة الدولية، للمطالبة باستمرار تفويض الأونروا، والخدمات والمساعدات التي تقدمها للاجئين.

إن تعزيز وتفعيل الجهود الفلسطينية في المحافل الدولية الرسمية، وفي أطر الدبلوماسية متعددة الأطراف، سيبقى قاصراً عن توفير أشكال تأثير وحضور الرواية الفلسطينية، ونجاحها في مزاحمة الرواية الصهيونية، دون استجماع الكفاءات والطاقات الفلسطينية، المنتشرة في أصقاع العالم (أفراد بمختلف الكفاءات والتخصصات – اتحادات ونقابات – جاليات – مؤسسات ثقافية ومجتمعية) واستثمارها جميعاً في استقطاب الرأي العام العالمي، على أحقيّة الرواية الفلسطينية، وبناء شبكات تنسيق فلسطينية /عالمية، تُعري الرواية الصهيونية أمام شعوب العالم، على غرار حركات المقاطعة " BDS"، والتصدي لسياسات التطبيع الرسمية والشعبية، وغيرها من العناوين ذات الصلة الوثيقة بالصراع على الروايتين.

لقد شهد النظام الدولي في العقود الأخيرة، تطورات نوعية بفضل اتساع اختصاصات وأنشطة المؤسسات والمنظمات الدولية، وتنامي أدوارها فيما يتعلق بالجوانب الحقوقية والقانونية، وعمليات مراقبة وتوثيق الانتهاكات، بحق الأفراد والجماعات، مثل المجلس الدولي لحقوق الإنسان، والأجهزة المكلفة بتطبيق المواثيق والاتفاقيات الدولية، والأطر القضائية الدولية المتخصصة بملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية، مثل محكمة الجنايات الدولية. توفر هذه المحافل إمكانية كبيرة، لتجريم سلوك الاحتلال، وملاحقة قادته السياسيين والعسكريين عن جرائمهم بحق المدنيين الفلسطينيين. ما يفرض استثمار انضمام دولة فلسطين إلى هذه المؤسسات الدولية، لتفعيل هذه الآليات المُتاحة، بما يقوّض ادعاءات الديمقراطية الصهيونية، التي يسوقها الاحتلال للعالم، وفضح ممارساته العدوانية والعنصرية والتوسعية.

أخيراً: يبقى العمل على هذه المهام كافة، وتفعيلها في الواقع الدولي، ولدى الرأي العام العالمي، مرهوناً ومشروطاً بنهوض العامل الذاتي الفلسطيني، وتجميع أوراق القوة الفلسطينية، وأهمها ورقة مقاومة الاحتلال، وفق استراتيجية وطنية فلسطينية، تحدد أشكالها وأنماطها المجدية، بما يتسق والقرارات الدولية، التي أكدت مشروعية الكفاح الفلسطيني، حتى نيل الفلسطينيين حقهم في تقرير مصيرهم. فرواية الحق التي لا تسندها القوة، يبقى صوتها خافتاً وغير مسموع.

من نفس القسم دولي