دولي
الرواية الفلسطينية...بين منطق الدفاع عن الحق واختلاق الواقع بالإكراه (2)
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 28 جوان 2020
... منذ تبلور مخططات المشروع الصهيوني، في عشرينيات القرن المنصرم، لاسيما بعد وعد بلفور، وخلال حقبة الانتداب البريطاني، أدرك الفلسطينيون حجم الأخطار، التي تتربص بوجودهم وأرضهم ومستقبلهم. وكانت تلك الأخطار المُحدقة، دافعهم الأكبر للتمسك بروايتهم الوطنية، بكل أسانيدها التاريخية، وحقائقها الوجودية، ومقوماتها الثقافية والمجتمعية والاقتصادية، وتمثلاتها الكيانية والحقوقية والمؤسساتية. في حين قاموا بالعديد من الانتفاضات والثورات التي شهدتها فلسطين قبل النكبة، تعبيراً عن رفضهم للسياسات الاستعمارية، التي سعت مبكراً إلى تكريس الرواية الصهيونية، على حساب حقوقهم الأصلية. أدركوا أيضاً ضرورة الدفاع عن روايتهم في ميادين السياسات الدولية، ومن اللافت في تلك الحقبة، انجدال الخطاب الفلسطيني بالخطاب الذي اعتمده المؤتمر السوري عام (1920)، والذي ضمّ ممثلين عن " سورية – فلسطين – لبنان "، وطالب باستقلال سورية الطبيعية استقلالاً تاماً، بما فيها فلسطين التي كانت وقتذاك الجزء الجنوبي من سورية الطبيعية. طبعت هذه السردية أيضاً كافة المؤتمرات العربية الفلسطينية المنعقدة ما بين الأعوام ( 1919- 1926)، التي لم يفصل خطابها بين مخاطر توزيع الحصة العربية من التركة العثمانية، بين الدول الاستعمارية، والخطر الصهيوني المُحدق بفلسطين على وجه الخصوص.
اتخذ الدفاع عن الرواية الفلسطينية في تلك الحقبة، ما عُرفَ بدبلوماسية الوفود والمذكرات، التي اقتصرت على حضور شخصيات فلسطينية وعربية، في اللقاءات والمؤتمرات التي تخص القضية الفلسطينية، ومن خلال رسائل ومذكرات إلى قادة الدول العربية والإسلامية والغربية، تعبّر عن مخاوف الفلسطينيين ومطالبهم. بيدَ أن ما يمكن وصفه بالنشاط والتمثيل الدبلوماسي، والدبلوماسية متعددة الأطراف "المنظمات الدولية"، لم يكن قائماً طيلة مراحل ما قبل النكبة وبعدها بعدة سنوات، ويعود ذلك لسببين أساسيين، (الأول) تغييب المؤسسات الدولية لفلسطين، كقضية تحرر وطني وحق تقرير مصير، وإنكار حقوق شعبها، وهو ما تبين – كما سبق – في صك الانتداب الصادر عن عصبة الأمم، وقرار التقسيم الصادر عن هيئة الأمم. ترافق ذلك مع تغييب إدراج فلسطين كبند مستقل في اجتماعات الجمعية الأمم للأمم المتحدة، حتى المنظمات الدولية التي تأسست بعد وقوع النكبة مباشرةً، مثل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (unrwa - 1949) و(لجنة توفيق فلسطين -1950)، كانت من وحي التعامل مع فلسطين، كقضية لاجئين ذات بعد إنساني، أو قضية أمن إقليمي ودولي، لا صلة لها بحق تقرير المصير. (الثاني) غياب إطار كياني يمثل الفلسطينيين، ويكون له دور فاعل وطنياً وعربياً ودولياً، ورغم وجود ممثل لفلسطين في جامعة الدول العربية منذ العام (1945)، وهو أحمد الشقيري، غير أن اختياره تم لشخصه، وليس باعتباره ممثلاً لأي كيان فلسطيني. وحتى بعد تأسيس الهيئة العربية العليا لفلسطين عام (1946)، لم ترق لتكون إطاراً كيانياً وتمثيلياً، يلتف حوله الفلسطينيون. أدت تلك الأسباب، إلى ضعف الأصوات والمؤسسات المُدافعة عن الرواية الفلسطينية، في مختلف المنابر والمحافل الدولية، وهو ما انعكس أيضاً على قصور الخطاب الفلسطيني في محاكاة الرأي العام العالمي في تلك الحقبة.
انعكست التحولات التي طرأت على النظام الدولي، خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، على مواقف وتوجهات هيئة الأمم المتحدة "مجلس الأمن والجمعية العامة"، حيث أصبحت قضايا تصفية الاستعمار، وحق تقرير المصير للشعوب، من أبرز شواغل المنظمة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية. في ظل هذا المناخ الدولي، جاءت ولادة منظمة التحرير الفلسطينية "م.ت.ف" عام (1964)، وحازت مكانة وطنية كبيرة، وغدت الكيان المعنوي للشعب الفلسطيني، بقدر ما كان للمنظمة دور أساسي، في إعادة إحياء الرواية الفلسطينية على المستوى الوطني، من خلال دورها في استنهاض قوى الشعب الفلسطيني، باعتبارها العنوان الحقيقي لحركة التحرر الوطني الفلسطيني. كذلك لم يغب عن برامج وسياسات المنظمة، العمل الدبلوماسي والقانوني والإعلامي، على مزاحمة الرواية الصهيونية في المنابر العالمية والدولية. أسهمت مركبات القوة الذاتية، التي راكمتها المنظمة في حقبة الستينيات والسبعينيات، في تفعيل دورها على مستويين، أولهما: مواجهة الرواية الصهيونية، في منابر وقنوات الرأي العام العالمي، حيث قامت من خلال دوائرها السياسية، والإعلامية، واتحاداتها ومنظماتها الشعبية، في بناء شبكة واسعة من العلاقات الدولية، في قارات آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، ثم امتد نشاطها على هذا الصعيد، إلى دول أوروبا، والولايات المتحدة الأميركية، وكانتا تشكلان الفضاء الأوسع للدعاية الصهيونية. (ثانيهما) دورها القانوني والدبلوماسي والتمثيلي، في مؤسسات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التابعة لها، إثر تغييب القضية الفلسطينية عن تلك المؤسسات لمدة سبعة عشر عاماً، تمكنت المنظمة من إعادة القضية للواجهة الدولية، وكانت الانعطافة الهامة في (10 كانون الأول/ ديسمبر 1969)، عندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم "2535"، الذي أقر حقوق شعب فلسطين غير القابلة للتصرف. تبعَ هذا القرار جملة من القرارات التي أخذت تكرس للشعب الفلسطيني حقوقه، بانتهاج مختلف وسائل تقرير المصير وعلى رأسها الكفاح المسلح. كان من أبرزها عام (1974)، القرار الأممي "3236" الذي أكد الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، وناشد جميع الدول والمنظمات الدولية بدعم الشعب الفلسطيني في كفاحه لاسترداد حقوقه. ومُنِحت (م. ت .ف ) في الجلسة ذاتها، بموجب القرار "3237" وارتباطا بتقرير المصير، مركز مراقب في الأمم المتحدة، وراحت تشغل حيزا في النظام الدولي الرسمي.
تميزت تلك الحقبة بتطور نوعي لافت، بالنشاط السياسي والدبلوماسي الفلسطيني على الساحة الدولية، لاسيما بعد أن نالت "م .ت .ف " الاعتراف الدولي القانوني، بصفتها الكيان الوطني والممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. مما أكسب الرواية الفلسطينية، مشروعيتها القانونية الدولية، ونجاحها في تهديد الرواية الصهيونية وعزلها عالمياً، بحيث لم تعد الأخيرة هي الصوت الوحيد في الساحة الدولية، مما دفع الأكاديمي الإسرائيلي عاموس بيرلماتير للقول: "إن ما يهدد إسرائيل فعليا ليس مدافع منظمة التحرير الفلسطينية، وإنما نجاحاتها السياسية وخصوصا في أوروبا". لا ينبغي أن يغيب أيضاً، دور الدعاية الثورية التي طبعت النشاط الدبلوماسي تلك الفترة، في العديد من الإنجازات التي تم تحقيقها، والتي تجلى مثالها الأوضح في مخاطبة الراحل ياسر عرفات الجمعيةَ العامة للأمم المتحدة عام (1974)، بمقولته الشهيرة: " جئت إليكم وأنا أحمل غصن زيتون في يدي، وفي اليد الأخرى أحمل بندقية الثائر، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي". بالتوازي مع النشاط الدبلوماسي كان ثمة نشاط فكري وثقافي وإعلامي، مارسه الفلسطينيون أيضاً في الساحات الدولية والعالمية، لتفنيد المزاعم التاريخية والدينية والقانونية، التي ارتكز عليها الخطاب الصهيوني في متن روايته الزائفة.
... يتبع