دولي

الرواية الفلسطينية...بين منطق الدفاع عن الحق واختلاق الواقع بالإكراه )1)

يندر أن نجد صراعاً بين روايات الحق والباطل، في تجارب التاريخ البشري القديم والمعاصر، احتشدت فيه ترسانة مهولة من المزاعم والأباطيل، وبروباغندا غير مسبوقة في خداع العقول وتضليلها، كما عليه الصراع؛ بين رواية أصحاب الحق والحقيقة في فلسطين، والرواية الصهيونية الزائفة ومزاعمها السالبة، لمشروعية الرواية الفلسطينية. لا غلّو أن هذا الصراع الرهيب، اتسم طابعه العام بالتناقض الوجودي منذ نشوئه، بين منطق اختلاق الوقائع وفرضها بقوة الإكراه الصهيوني، ومنطق الدفاع عن الحقوق الراسخة في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي، ما يكشف بدوره السياسات النافذة للقوى الاستعمارية، في إضفاء "الشرعية الدولية على الرواية الصهيونية"، على حساب إنكار عدالة الرواية الفلسطينية.

ما يدل على أن الصعوبات والتحديات، التي واجهت الرواية الفلسطينية، منذ ما قبل النكبة، مروراً بواقعتها التأسيسية عام (1948)، وما تلاها من محطات وتحولات الصراع إلى يومنا هذا، أظهرت بمجملها ثقل العامل الدولي، وأدوار المؤسسات الدولية المُعبّرة عنه، في تثبيت وتمرير الرواية الصهيونية على الصعيد العالمي، ما جعل من تلك المؤسسات الخصم والحكم في آنٍ معاً، وهي سابقة فريدة أنتجها تواطؤ المنظومة الدولية، في تعاملها مع القضية الفلسطينية، وحصتها من المسؤولية عن مأساة الشعب الفلسطيني. أهمية الإشارة إلى هذه الإشكالية، يعود إلى تأثيرها العميق على تحولات الصراع بين الروايتين في بعده الدولي والعالمي من جهة، ومنعكساته على أداء الفلسطينيين أنفسهم في خضم الدفاع عن روايتهم، طيلة محطات الصراع قبل النكبة وبعدها من جهةٍ ثانية.

يصعب فهم سياسات المجتمع الدولي، في تعامله مع القضية الفلسطينية، على امتداد أكثر من قرن، دون تناول دوافع الدول الاستعمارية، التي سيطرت على المؤسسات الدولية، التي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الأولى "عصبة الأمم" والتي ورثتها لاحقاً "هيئة الأمم المتحدة" في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث عملت الدول المنتصرة في الحربين، على تهيئة المناخ الدولي، لمساعدة القوى الصهيونية على إقامة مشروعها الاستيطاني التوسعي على أرض فلسطين التاريخية. هذا ما نراه جلياً في الحقبة التي أسست لقيام دولة الكيان الصهيوني في (15 أيار عام 1948)، والتي بدأت مع تبني المجلس الأعلى للحلفاء، في مؤتمر سان ريمو الذي عقد عام (1920)، مضمون وعد بلفور الصادر عام (1917)، والذي يُعتبر أول وثيقة تصدر عن دولة استعمارية هي بريطانيا، "تتعهد بموجبها بإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين ". لم تقف تلك الدول عند حدود تبنيها هذا الوعد الجائر، الذي مَنح من خلاله من لا يملك (بريطانيا) لمن لا يستحق (الحركة الصهيونية)، بل قامت بإعلان مشروع الانتداب البريطاني على فلسطين من قِبل عصبة الأمم، ووضعه موضع التنفيذ في سبتمبر/ أيلول (1922) كما ورد في المادة " 22" من ميثاق العصبة، عدا عن افتقاد ذاك الوعد لأي أساس تاريخي أو قومي أو قانوني، فقد أصبح مُرشد حكومة الانتداب البريطانية، وبوصلة سياساتها الظالمة بحق أصحاب الأرض الشرعيين، حيث سعت الحكومة المُنتدَبة، لفتح أبواب فلسطين أمام الهجرة اليهودية، وتشجيع الاستيطان الذي اقترن بمصادرة الأملاك العامة، وإطلاق يد العصابات الصهيونية، وتمكينها قبل الإعلان عن نهاية انتدابها، من سلب الفلسطينيين أرضهم، وطردهم خارج وطنهم. المفارقة أن وعد بلفور وصك الانتداب، رغم دورهما الفادح في إنكار الحقائق التاريخية والساطعة كعين الشمس، التي تؤكد أحقيّة الفلسطينيين بأرضهم، فإن ما قام به المجلس الأعلى للحلفاء والحكومة البريطانية المُنتدَبة، هو مخالفة صريحة للوعد وصك العصبة معاً، لأن كليهما أكدا على "عدم الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية، التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين"، فضلاً عن مخالفة كل السياسات الانتدابية التي تولتها بريطانيا في فلسطين، وما أحدثه إعلانها المفاجئ عن الانسحاب وإنهاء الانتداب، من مخالفة صريحة للمادة "5" من صك الانتداب، التي تنص: " إن الدولة المُنتدَبة مسؤولة عن ضمان عدم التنازل عن أي جزء من أراضي فلسطين إلى حكومة دولة أجنبية، وعدم تأجيره إلى تلك الحكومة، أو وضعه تحت تصرفها بأي صورة أخرى".

جرياً على دور عصبة الأمم، في تغييب وإنكار حقوق شعب فلسطين، خلال حقبة الانتداب، واصلت هيئة الأمم المتحدة، التي تأسست عام (1945)، الاستجابة لمتطلبات فرض الرواية الصهيونية، من خلال دورها في تمرير مشروع تقسيم فلسطين، إثر صدور القرار "181/ 1947"، الذي خالفت بصدوره عنها، التزاماتها المنصوص عليها في المادة " 77 "من ميثاقها، والتي توجب عليها في حال إنهاء الانتداب "إمّا الاعتراف بحق شعب فلسطين بتقرير مصيره، وإمّا أن تضع البلاد تحت نظام الوصاية"، وهو ما لم يتمّ من قِبلها.

لم يقتصر قرار التقسيم على مخالفة الأمم المتحدة لمبدأ العدالة، حين انتزع منطقة من البلاد ومنحها لليهود، مع أنّ نصف سكانها من العرب، ويملكون أكثر الأرض فيها، فقد حكم بذلك على أهلها بالتطهير العرقي، بما يعني أنّ الأعضاء الذين صوّتوا على القرار ساهموا في هذه الجريمة التي وقعت في نكبة العام 1948. علاوةً على ذلك فإن قرار التقسيم هو السند الكاشف لما يسمّى إعلان الاستقلال الإسرائيلي في (15 أيار1948)، وهو ما يفسر قبول اليهود آنذاك بقرار التقسيم، الذي يكرّس وجودهم في فلسطين، ويحقق جهودهم في إنشاء دولة خاصة بهم، وعلى مساحة أكبر مما كانوا يملكون، ويعطيهم وصفا قانونيا يعترف به المجتمع الدولي.

تكشف تلك الحقائق مدى مجافاة الأمم المتحدة لالتزاماتها الدولية، في تعاملها مع القضية الفلسطينية، ومسؤوليتها الواضحة عن إنكار وتغييب الرواية الفلسطينية رغم التحولات التي طرأت على مواقف المنظمة الدولية، بعد نشوء منظمة التحرير الفلسطينية، ونشاط الأخيرة على الساحة الدولية في حقبة السبعينات وما تلاها، والتي أسهمت في تغيير نظرة المجتمع الدولي لفلسطين، من قضية إنسانية تتعلق باللاجئين، إلى قضية وطنية ترتبط بحق تقرير المصير. غير أن تلك التحولات، لا يمكن أن تبرئ المنظمة الدولية من دورها في تشريع أباطيل الرواية الصهيونية، تحت مظلة الشرعية الدولية، ومن وجاهة الحديث عن فشلها في أن تكون حكماً عادلاً ومنصفاً، كما كان يتوجب عليها.

...يتبع

من نفس القسم دولي