دولي

عن تركة عرفات...

ياسر عرفات شخصية إشكالية في التجربة الفلسطينية، فهو الأكثر تأثيراً في الوضع الفلسطيني أكثر من أربعة عقود. عندما توفي، كان يحمل ألقابا ويشغل مناصب كثيرة، مثل رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية، والقائد العام لقوات الثورة الفلسطينية.. إلخ. من الألقاب التي تؤكد مركزية الرجل في التجربة الفلسطينية حتى يوم وفاته. رجل إشكالي، قاد تجربة معقدة، يملك الآخرون، عربياً وإقليمياً ودولياً، قدرة كبيرة على التأثير فيها، وكان عليه التعامل مع كل هذه التدخلات والتداخلات. اختلفت الساحة الفلسطينية في تقييمه، هناك من اعتبره رمزاً للقضية الفلسطينية لا يموت، وعلى الطرف النقيض لم يترك آخرون تهمة إلا ألصقوها به.

شاءت الأقدار أن يغيب عرفات في ظروف معقّدة كان يمر بها الوضع الفلسطيني، مع معرفتنا أنه كان وضعاً معقداً دائماً. غاب والوضع الفلسطيني معلق، لم يستكمل وجوده دولة، ولم يعد ثورة، وضع معلق في فترة انتقالية، بموجب اتفاقات مع إسرائيل قد لا تفضي إلى الدولة مع استحالة العودة إلى الثورة. وزادت من تعقيد الوضع هشاشة القوى السياسية الفلسطينية التي عبّرت عن نفسها في حالة من الانقسام، ليس على مستوى الساحة السياسية فحسب، بل وداخل الفصيل الواحد أيضا. غاب الرجل بعد فشل قمة كامب ديفيد الثلاثية في العام 2000 التي جمعته مع الرئيس الأميركي بيل كلينتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، والتي اتُّهِمَ بإفشالها، لرفضه توقيع تنازلات لم يكن يستطيع الموافقة عليها، ما أشعل انتفاضة فلسطينية جديدة، دفع ثمنها ثلاث سنوات حصار في جزء صغير من مبنى المقاطعة في رام الله من الجيش الإسرائيلي. خرج من الحصار بعدما أشتد المرض عليه إلى مستشفى في باريس لتنتهِي حياته هناك، بأعراض طبية غامضة تشير إلى اغتيال إسرائيلي له. وهذا ما جعله بطلاً وشهيداً بعيون الشعب الفلسطيني.

اشتبكت حياة عرفات الشخصية مع تقلبات الوضع الفلسطيني، حتى بات الرجل مركز التوازن في الساحة الفلسطينية ورمز القضية، على ذلك قُرئ مرضه قبل غيابه بوصفه قضية سياسية أكثر منها طبية فنية، أكثر من أي شخصية أخرى. على الرغم من كل التراجيديا الشخصية في حياة الرجل، خلال رحلته الطويلة مع التجربة الفلسطينية، فهو الذي استطاع الإمساك بيد من حديد بالوضع الفلسطيني المعقد والمشتت أربعة عقود. 

لم يمسك بالقرار السياسي الفلسطيني فحسب، بل أمسك أيضا بشبكة من العلاقات العنكبوتية في  الساحة الفلسطينية ووظّفها لصالحه، علاقات رسمية مكشوفة (علاقات السلطة والمنظمة وحركة فتح والفصائل المشكلة للوضع الفلسطيني)، وعلاقات أخرى خفية، امتدادات داخل الفصائل الفلسطينية الأخرى، بوصفها أدوات فاعلة تنفذ سياسته داخل هذه الفصائل، ووصل هذا التحكّم إلى درجة افتعال انشقاقاتٍ داخل قوى فلسطينية، لمصلحة خيارات عرفات السياسية، كما حصل في انشقاق الجبهة الديمقراطية، وانشقاقات أصغر في الجبهة الشعبية في مطلع التسعينيات، والتحاق قادة من فصائل أخرى به شخصياً.

في الوقت الذي تمسك فيه عرفات بمنظمة التحرير ممثلا للشعب الفلسطيني، لم يدِرها بوصفها مؤسسات تمثيلية للشعب، بل بشبكة علاقات ترتبط به شخصياً، لا عبر هيئات حركة فتح ومؤسسات منظمة التحرير، فهذه الهيئات كانت تُستدعى عندما يحتاجها لإقرار سياساتٍ يحتاجها، وفي غير هذه الأوقات لم تعقد أي اجتماعات دورية، لذلك كانت مؤتمرات فتح واجتماعات المجلس الوطني تغيب لسنوات طويلة. ولم تتغير الحال عند بناء السلطة، بل بقي يتعامل معها على أساس أنها أداته السياسية الشخصية. لذلك، لم يكن يخاطب في مراسلاته الهيئات، بل يخاطب القائمين على رأسها بأسمائهم، حتى في المراسلات الرسمية. وهذا ما جعل هذه المؤسسات طيعة بالنسبة له.

امتدت هذه النظرة الاستخدامية للمؤسسات الفلسطينية إلى العاملين معه في منظمة التحرير أو في السلطة الوطنية، فلم تكن خياراته تقوم على الكفاءة، بل على الولاء، لذلك جمع موالين كثيرين له شخصياً، شغلوا مناصب حساسة، وأحياناً كانوا كارثة على الوضع الفلسطيني، ولم يسعَ إلى استبدالهم على الرغم من معرفته بقدراتهم المتواضعة. يمكن الاستدلال على طريقة تفكير عرفات الاستخدامية للشخصيات الضعيفة، من خلال تأمل أسماء الرجال الذين اختارهم، ليتفاوضوا من خلال القناة السرية في أوسلو التي أدت إلى اتفاق أوسلو الكارثي الذي حكم الوضع الفلسطيني منذ ربع قرن، ومقارنتهم بالرجال الذين حوله، لنرى أنه استخدم الرجال الأكثر إطاعة له، في مقدمتهم حسن عصفور وأحمد قريع. كان هناك عديدون من رجال عرفات أكثر منهم كفاءة للقيام بهذه المهمة، لكنه اختارهم، وهذه الخيارات ليست بريئة، لأنها لا تعود إلى زمن المفاوضات، فهي سياسة اتبعها قبل ذلك بكثير، فقد اعتقد أنه قادر على استخدام الرجال، حتى الجواسيس منهم، وهناك كثيرون جلبهم عرفات، ووضعهم في مواقع فلسطينية حساسة، من دون أي مبرر أو كفاءة، وحالة محمد رشيد مثال فج، لا تحتاج إلى شرح كثير. هذا الرجل الغامض، الذي ظهر من العدم بعد خروج عرفات من حصار طرابلس وجلبه معه ليتسلم مواقع حساسة، ويصبح مع إقامة السلطة على رأس صندوق الاستثمار الفلسطيني، من دون أي خبرة مالية أو اقتصادية. ولم يتورّع عرفات عن مكافأة الفاشلين، لأنه يعرف أن هؤلاء يكونون الأكثر طاعة له، فلم يتردّد في تعيين الضابط المسؤول عن انسحاب المقاتلين من دون أوامر من الجنوب اللبناني من دون قتال، في أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبنان في العام 1982، لنجده، مع إقامة السلطة، قائداً لجهاز المخابرات في الضفة الغربية. ولأنه يعتبر أن الآخرين يعملون عنده، أو أنه أبو الجميع، لم يتورع عرفات عن صفع قائد جهاز أمني علناً بعد مشادّة كلامية بينهما في العام 2002.

عملت النظرة الاستخدامية للمؤسسات الفلسطينية، واستخدام الرجال الأكثر طاعة في السياسة الفلسطينية، على إيجاد مؤسسات شكلية، وتراتبية أبوية في المؤسسات الفلسطينية، يقف على رأسها أبا وقائدا للجميع. لم يظهر الضعف الشديد للوضع الفلسطيني، لأن مركزية عرفات، وتفرّغه الكامل للعمل السياسي وحياته الشخصية المتسمة بالتقشف، وارتباط رجال السلطة والمنظمة به شخصياً، غطّت هذه كلها نسبياً على هذه العيوب التي سرعان ما انكشفت بغيابه مع أداء الرئيس محمود عباس الباهت الذي لا يملك لا كاريزما عرفات ولا مركزيته، ولا سلطته الشخصية على الآخرين. فجاءت وفاة الرجل كاشفة لهشاشة الوضع الفلسطيني، ولعيوب قاتلة في الساحة الفلسطينية.

رحل أبو عمار وترك وراءه سلطة مهدّمة، ومنظمة مهترئة، وفصيلا (فتح) بروابط شللية، يتحمل جزءاً أساسياً من المسؤولية عن هذه التركة الثقيلة، وعما آلت إليه الأوضاع بوجوده وبعد رحيله. رحل الرجل، ولكن طريقته في إدارة السياسة ما زالت المكون الأساسي للساحة السياسية الفلسطينية، وإن كانت تمارَس بشكل كاريكاتوري اليوم. ولا خلاص للوضع الفلسطيني من دون الخلاص من سياسات عرفات الاستخدامية، وبناء مؤسسات تمثيل فلسطينية حقيقية.

من نفس القسم دولي