الوطن

"نيتي أن أجعل القارئ يتيه بمتعة في المعالم"

الروائي سمير قسيمي في حوار لـ "الرائد":

 

 

 

وصفت برواية الموسم، وقال عنها العديد من الروائيين إنها رواية "مفترسة" غريبة غرابة أحداثها وطريقة كتابتها. إنها "الحالم" آخر أعمال الروائي سمير قسيمي الذي فيما يبدو أضاف إلى متن السرد العربي رواية مختلفة ومتميزة إلى أبعد الحدود. يكاد يجمع النقاد أن الرواية العربية لم تشهد رواية أكثر إرباكا وغرائبية منها. في هذا الحوار، حاولنا سبر جانب ولو بسيط من "الحالم" مع صاحبها سمير قسيمي، والذي رغم ما تثيره روايته من رواج اعتبرها مجرد رواية أو كما قال خطوة نحو كتابة روايته التي يصفها دوما بالرواية التي "لا تتشبه".

 

الرائد: في البداية.. ما هي آخر الأصداء عن رواية الحالم؟

 

سمير قسيمي: أعتقد أنها تلقى صدى رائعا من قبل القراء والنقاد والصحافة الأدبية على حد سواء، وهو ما يسعدني كما يسعد أي كاتب أن يحظى عمله بمثل هذا الصدى. عندي شعور أن "الحالم" كشفت عن وجهي وأن الخطوة التي رغبت فيها منذ بدأت كتابة الرواية، خطوة نحو كتابة ما سميته دوما "روايتي التي لا تتشبه". ما يعني أنني لا أعتبر هذه الرواية أقصى ما يمكنني كتابته، وهذا رد على الذين تساءلوا كيف يمكن لسمير قسيمي أن يتجاوز مستقبلا "الحالم"؟.. أعتقد أن هذا السؤال طرح بشكل غير علني حين كتبت "هلابيل" ولكنه أصبح أكثر إلحاحا بعد الحالم التي أكدت أن نهمي السردي لا حدود له، فأنا لا أؤمن بمثل تلك المقولة السائدة في الساحة الروائية أن نجاح العمل من شأنه أن يحد من قدرة الكاتب في كتابة عمل أكثر نجاحا، لأنني لا أقارن بين أعمالي ولا أهتم وأنا أكتب عملا جديدا إلا بأن يكون هو الأفضل، قد أنجح في هذا وقد لا أنجح، ولكنني موقن كما قلت بأنني دائما أسعى لكتابة ما هو أكثر جمالا مما كتبت من قبل. 

 

توصف روايتك "الحالم" على أنها "متاهة سردية" بامتياز، هل يعني هذا أنك حاولت بها تضييق دائرة قرائك.. بمعنى أنها تعني فئة دون الأخرى؟

 

متاهة "الحالم" هي متاهة تشويقية، سيّرت حبكتي وفقها، وهي تقنية لا أكثر ولا أقل، وقد استعملت فيها سردا انسيابيا يسمح لأي قارئ بأن يتتبعها ويقرؤها بكل ارتياح. صحيح أن الأسئلة بخصوصها لن تنتهي حتى بعد انتهائه منها، وصحيح كذلك أنه كلما غاص فيها تاه أكثر، ولكن كل هذا شكل معالم لعبة سردية أردتها وتعمدتها ليستمر القارئ في القراءة ويمنح للعمل كل وقته، وهو ما أخبرني به العديد من القراء الذين أعرف أنهم من النوع المتطلب وأن غالبيتهم من النوع الذي لا يحب قراءة الروايات الضخمة، ومع هذا شهدوا أن كبر الرواية ورقيا لم يعقهم على قراءة الرواية. ووصفوها بالورطة. نعم لقد كتبت الحالم لتكون "ورطة" لكل من يبدؤها، وكانت نيتي أن أجعل القارئ يتيه بمتعة في سرد متسلسل ومتناهي المعالم، بهدف أن أصل به إلى الخاتمة التي وضعتها للعمل. كان الأمر تحديا لنفسي أن أكتب رواية يستلذها القارئ رغم عدم علمه إلى أين تسير. أعرف من منطلق تجربتي كقارئ، أن الرواية التي لا تفاجئ القارئ لا يعود إليها، لهذا حكت الرواية بالمفاجئات وبأحداث يمتزج فيها الواقع والخيال والمعقول واللامعقول باستمرار وكثافة، حتى يتراءى للقارئ أن الغرائبي ليس في النهاية إلا تفسيرا من تفسيرات الواقع.

 

ما عنونته بـ"المقدمة" لم يكن في الحقيقة إلا فصلا تمهيديا شكل بطريقة ما "كمّاشة" غرائبية جرّت القارئ إلى قراءة عمل ضخم ورقيا وسرديا. هل هي تقنية اعتمدتها أم كان الأمر صدفة؟

 

الصدفة؟.. لا يمكن أن تعتمد على الصدفة في عمل تأمل أن يبذل القارئ فيه ماله ووقته وجهده فيه. فأنا أعتقد أن من باب احترام القارئ ألا تبيعه عملا كان بمقدوره هو كتابته. وباحترامك للقارئ فإنك تعمل الاحترام في نصك أيضا. لقد كانت المقدمة من أصعب فصول الرواية عملا، أعترف أنني قضيت في التفكير فيها وقتا طويلا جدا، لأنني كنت موقنا أن "التابل" الذي سيجعل القارئ يشرع في قراءة الرواية، وأن الأسئلة التي ستطرحها هي التي تستحق في اعتقاده ما يبذله من جهد في قراءة هذا العمل الذي كان كما وصفته ضخما ورقيا وسرديا. لهذا بدأت بأمر وقع لي بالفعل وهو تضييعي لعمل روائي بسبب إهمالي الشخصي، وشرعت في بذر ما يجب من غرائبية "معقولة" إن جاز التعبير تتقاطع جميعها عند مفهوم "الصدفة"، لأنني أعرف من خلال تجاربي الحياتية أن أكثر المفاهيم "مطاطية" وانسياقا واتساعا في كل ما نؤمن به أو لا نؤمن به هو "الصدفة"، لهذا جعلتها محور الفصل التمهيدي الموسوم "المقدمة"، كل هذا من دون أن تشكل "الصدفة" سببا وجيها لكتابتها.

 

"حوار غير وديّ مع كاتب لا يعرفه أحد"، شكل شبه رواية بوليسية بطلها ممرض في مستشفى أمراض عقلية، كانت ما برر بنحو ذكي تتابع الروايات الثلاث المشكلة للرواية. هل تعتبر ذلك جديدا في السرد العربي؟

 

في الحقيقة لم أصادف في الرواية العربية ما يشبه هذه الطريقة، ومع ذلك لن أجزم بعدم وجودها وإن كان لوجود مثل هذا العمل سابقا أن يثير ما يفترض أن يثيره من نقد ورواج، واعتقادي أن النقد المتخصص وحده من يستطيع الجزم في هذه المسألة. كل ما يمكنني أن أؤكده بشكل دقيق، أنني حين فكرت في "الحوار"، خطر بذهني نص "ألف ليلة وليلة"، أعني أن هذه الرائعة في تراثنا كتبت بنفس الطريقة، وهي شخص يحكي وآخر يصغي، وكان هم الحكّاء أن يتسلسل في حكيه بطريقة ذكية تقطع على المتلقي أن يسلك طريق الملل. هذا ما خطر ببالي حين كتبت ما اعتبرته شبه رواية بوليسية. ولأكون أكثر تفصيلا في الأمر، فاعتماد ثلاث روايات تتقاطع وتلتقي في تشكيل الرواية "الحالم" لم يكن اعتباطيا، ذلك أنني أردت أن آخذ صورة حقيقية لموضوعي في العالم الحقيقي، وكما تعلم، فكل الأجسام في الواقع تحددها ثلاثة أبعاد، كل رواية شكلت بعدا "زمانيا" للصورة النهائية. لم تعتمد الرواية فقط في أحداثها على "البصري" كما يتصوره الناقد، بل إن التفكير فيها وتصميمها وبنائها اعتمد على ذلك أيضا. وكما يحدث في المقاطع البيانية للأجسام، فإن رؤية الجسم وفق مقطع واحد يجعلها رؤية قاصرة، تحتاج فعلا إلى رؤية الجسم بجميع مقاطعه أولا، ثم تحتاج إلى تجميعها مرة واحدة لتتمكن من رؤية الجسم بصورته الحقيقية. 

 

صحيح أن أهم أسئلة "الحالم" هو المتعلق كما جاء في نبذة الناشر "هل يستحق الحلم ما نبذل من أجله؟". ولكن بقراءة الرواية نشعر بأنها رواية قلق، كتبت به وعنه وفيه، ما رأيك؟

 

بشكل ما كان القلق محورا لـ"الحالم" حتى أن الروائي الدكتور أمين الزاوي بمناسبة حديث تلفزيوني سجله معي بخصوصها أثار هذه النقطة بالتحديد. فكما كتبت في السابق "في عشق امرأة عاقر" وأنا أشعر بالغضب حتى صنفت رواية غضب، فقد كتبت "الحالم" من منطلق شعوري بالقلق، القلق مما أكتب ومما أعيش والأهم القلق على سيرورتي ومسيرتي ومن الحياة التي أسعى إليها. في النهاية أليس الحلم بحد ذاته ترجمة ميتافيزيقية للقلق الذي ينتابنا، كذلك الكوابيس التي تراودنا أحيانا؟.. أعتقد أنني تمكنت من خلال هذا العمل أن أنقل شعور "القلق" إلى القارئ بحيث وجدت أن تعليقات معظم من قرأها قد حوت هذا الشعور.

 

جعلت من اسمك محورا للعمل بمنظورات مختلفة: سمير قسيمي الراوي، سمير قسيمي المترجم، سمير قسيمي الروائي، وسمير قسيمي بالمقلوب "ريماس إيمي ساك".. هل حاولت من ذلك إظهار الجانب النرجسي للكاتب أم هي على حد وصف المفكر محمد شوقي الزين لروايتك "تجاوز للهوية بالاعتماد على المبادئ "الباروكية"؟

 

سعيد بالطبع من أن مفكرا وفيلسوفا من قامة محمد شوقي الزين اهتم بروايتي وشدته حتى كتب عنها، حتى أنني أعتقد أنه فهم لعبتي السردية بعمق في رواية الحالم. لقد كانت الحالم بعيدا عن النرجسية التي لا أرى أنها عيب في الكاتب إذا بررها جهده وعمله، عملا يعتمد على الانعكاس، انعكاس كل شيء، ينعكس الاسم ليصبح سمير قسيمي "ريماس إيمي ساك"، وينعكس العمر ليصبح الكاتب الشاب الذي هو أنا الكاتب الهرم بطل الرواية، وينعكس الواقع ليصبح خيالا، وينعكس المنطق ليصبح لا معقولا.. لقد أعملت المرايا في كل صفحة من الحالم وفي كل حدث مهم بدا بسيطا. حتى أن أحدهم ممن يركز على التفاصيل سألني عن إعاقة "الكاتب الذي لا يعرف أحد" بفقدانه لإحدى عينيه وقال لي إن رضا خباد أيضا فقد عينا ولكن الأخرى، أجبته بالطبع فإذا فقد الكاتب عينه اليمنى فعلى انعكاسه أن يفقد اليسرى، هذا ما تفعله المرايا كل المرايا تعكس كل شيء، حتى أنني أملك اعتقادا ساذجا من أنها بطريقة ما تملك أن تعكس حتى المشاعر التي تسكننا..

 

جميع القراءات الصادرة لحد الآن عن الحالم وبالرغم من كثرتها تؤكد أن الحالم امتازت بقوة حبكة فريدة وبسرد شبكي غريب وأيضا بخاتمة لا يمكن توقعها. هل يعني هذا أنك كنت "بناء" في كتابتها أي أنك اعتمدت تقنية البناء وليس السرد العفوي في كتابتها؟

 

الرواية تفضح نفسها بنفسها، فحين تعمد إلى كتابة مثل هذا النوع من الروايات فلا يسعك إلا أن تكون بناء. على الفكرة أن تتشكل في عقلك أولا، ثم تفكر جيدا في شخوصها وأحداثها وتقسيماتها أيضا، ثم تشرع في العمل. في الحالم كنت بناء وقد جرى البناء بالشكل التالي: أول ما كتبته كان القسم الثاني من الجزء الثالث باستثناء الفصل الأخير منه، ثم شرعت مباشرة بعدها في كتابة ثلاثة فصول من القسم الأول من الجزء الثاني، لأتوقف وأشرع في كتابة "مسائل عالقة" وحين انتهيت كتبت الفصل الأخير من القسم الثاني من الجزء الثالث، وبعدها كتبت اعترافات جميلة بوراس كاملة، وشرعت في كتابة "المترجم من دون فصلها الأخير، بعدها كتبت خاتمة الرواية، ثم عدت وكتبت الفصل الأخير من "المترجم" وفي هذه اللحظة اكتملت الروايات الثلاث، وحين اكتملت كتبت المقدمة ثم أجزاء "حوار غير ودي..". وهكذا انتهى العمل كما أحببت.

 

ما يلاحظ في روايتك، أنها تستشهد بأعمال وأسماء غربية كثيرة على غرار: غارسيا ماركيز، بول أوستر، خوان خوسي ماياس، وليام بليد، بريستلي، يوسا، برونوفسكي، جورجي أمادو، جوزيف روث.. كل هذا دون أن تستشهد بعمل عربي واحد. أيعني هذا أن قراءاتك ومراجعك كلها غربية، خاصة في "الحالم"؟

 

بالتأكيد ليست مراجعي كلها غربية، فأنا قارئ نهم للرواية العربية، ولكن الأمور أحيانا تحدث بلا سبب وجيه، تحدث فحسب..

 

بعض النقاد ممن طلبت رأيهم في "الحالم" بمناسبة هذا الحوار وصفوها بـ"المفترسة"، أيعني هذا أنها بحق رواية الموسم؟

 

لا أدري بحق.. هذه مسألة لا تهمني لا عن قريب ولا عن بعيد. بالنسبة لي هي رواية فحسب.

 

في اعتقادك هل ترى أن رواية الحالم مؤهلة لحصد إحدى الجوائز العربية ولما لا العالمية؟

 

مؤهلة؟.. أمر أكيد. هل ستفعل؟ لا أدري ولا أعتقد أن الأمر مهم إلى هذه الدرجة، لا بالنسبة لروايتي الحالم ولا حتى بالنسبة لي.

 

في الأخير وبعد الحالم فيما يفكر سمير قسيمي؟

في الكثير ولكن سيحين وقته بلا ريب.

حاوره: فيصل شيباني

 

من نفس القسم الوطن