دولي
المستوطنات الإسرائيلية ومدارسها الدينية: مستنقعات الإرهاب
بينت معطيات "الشاباك" أن هؤلاء تعدوا مرحلة العمليات الفردية إلى تنظيم أنفسهم
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 13 جانفي 2019
كشف الاعتداء الإرهابي الذي أسفر عن استشهاد الفلسطينية شادية محمد الرابي، في 13 أكتوبر الماضي، عن وجود تنظيم سري إرهابي يهودي جديد، يضاف إلى تنظيمات سابقة، كانت نشطت في الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967، وقد اضطر الاحتلال الإسرائيلي أخيراً، في حمى الدفاع عن نفسه في وجه اتهامات اليمين الاستيطاني المتطرف، في الأسبوعين الماضيين، بعد اعتقال "مجموعة من فتية التلال"، إلى الاعتراف بأن المجموعة التي تم اعتقالها وخضعت لتحقيقات لدى "الشاباك"، هي عملياً منظمة إرهابية جديدة، توفرت أدلة حول تورطها في عملية قتل الرابي، عبر رشق السيارة التي كانت تقلها وزوجها وأبناءها بالحجارة عند حاجز زعترة القريب من مستوطنة "رحاليم"، حيث تقع مدرسة يهودية دينية تسمى "بري هآرتس" وتعني ثمار البلاد.
بينت المعطيات التي اضطر جهاز "الشاباك" الإسرائيلي إلى نشرها في وسائل الإعلام الإسرائيلية، أن منفذي العملية الإرهابية، لم يكونوا مجرد أفراد ممن يعرفون "بفتية التلال"، وهي تسمية يطلقها المستوطنون والإعلام الإسرائيلي على المستوطنين الذين يشنون اعتداءات بشكل دائم ومنهجي على ممتلكات الفلسطينيين، بل إنهم تعدوا مرحلة العمليات الفردية إلى تنظيم أنفسهم في جماعة إرهابية، تتخذ من المدرسة الدينية في مستوطنة "ريحاليم" مقراً لها. كما عثر جهاز "الشاباك" على شعارات مناهضة للحكومة الإسرائيلية، وخط الصليب المعقوف على علم إسرائيلي مع شعارات مناهضة للصهيونية عموماً. وتوفر هذه المدرسة الدينية عملياً غطاءً يمنح أفرادها تأييداً شعبياً في صفوف المستوطنين، مع إبقاء خط دفاع لدى قادة المستوطنين بأن أحداً لا يعرف بدقة هوية هؤلاء الفتية، وأنهم "فتية جيدون وأخيار"، عادة تأتي أعمالهم "المرفوضة" عموماً رداً على عمليات فلسطينية أو انتقاماً ليهود قتلوا في هذه العمليات.
إلى ذلك، كشفت التحقيقات وبيانات "الشاباك" حقيقة قيام كبار حاخامات مستوطنة "يتسهار" بإصدار فتوى تجيز "لشبان من المستوطنة" السفر يوم السبت وكسر حرمة السبت، للوصول إلى هؤلاء "الفتية" لإرشادهم إلى كيفية التعامل مع تحقيقات "الشاباك"، بما يؤشر عملياً على معرفة قادة المستوطنة وحاخاماتها بدور لهؤلاء "الفتية" في جريمة قتل شادية الرابي.
• بينت معطيات "الشاباك" أن منفذي عملية قتل الرابي تعدوا مرحلة العمليات الفردية إلى تنظيم أنفسهم في جماعة إرهابية
لقد اضطر جهاز "الشاباك" الإسرائيلي إلى الإفراج عن هذه المعطيات لمواجهة الضغوط الهائلة التي مارسها قادة المستوطنين وحاخاماتهم، (ومن بينهم حاييم دروكمان وأليعزار ميلميد، وهما من أبرز قادة حاخامات المستوطنات وحزب "البيت اليهودي"، واللذان كان نفتالي بينت استشارهما قبل أسبوعين قبيل قراره تشكيل حزبه الجديد "اليمين الجديد")، على قيادة "الشاباك" وعلى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو للإفراج عن المعتقلين، بما في ذلك الاتصال بشكل مباشر بوزيرة القضاء إيليت شاكيد.
وهي تكشف، في الواقع، حجم الدعم العام الذي يحظى به عناصر التنظيمات اليهودية الإرهابية من جمهور المستوطنين، ومن قيادات المستوطنات وساستها.
وتوضح نظرة سريعة إلى مطلع الثمانينيات أن موقف المستوطنين الحالي ليس مستغرباً، بالنظر إلى أن هذه التنظيمات الإرهابية بدأت منذ العام 1980 في مستوطنات الضفة الغربية، وحظيت بدعم وتأييد كاملين من المستوطنين ومن مجمل اليمين الإسرائيلي الذي تعامل بتساهل مع الإرهابيين اليهود، وغفر لهم جرائمهم ليستوعبهم في وظائف عالية.
وظهر أول تنظيم يهودي سري في صفوف المستوطنين في الضفة الغربية، في الثاني من يونيو/حزيران 1980، عندما حاول أعضاء التنظيم تفجير سيارات ثلاثة من رؤساء البلديات في الضفة الغربية المحتلة، ممن كانوا محسوبين على منظمة التحرير الفلسطينية، وهم بسام الشكعة في نابلس (فقد ساقيه) وكريم خلف في أريحا (فقد ساقاً) وإبراهيم الطويل في البيرة. ونشط هذا التنظيم على مدار ثلاث سنوات كاملة نفذ خلالها عمليات تفجير مختلفة، بينها الاعتداء الدامي في العام 1983 على الكلية الإسلامية في الخليل، والذي أدى إلى استشهاد ثلاثة طلبة في الكلية. وتم القبض على أفراد التنظيم فقط في العام 1984. ومع أن التنظيم ضم 29 عضواً، إلا أن الاحتلال دان 15 فرداً فقط من أعضاء التنظيم، بينهم من أصبح لاحقاً أحد أبرز الصحافيين في إسرائيل حتى اليوم، حجاي سيغل، ومن تولى مهام كبيرة في تسريع وبناء المستوطنات، بما في ذلك عبر عمليات التزوير والنصب، زيئف حيفر. وقد أصدرت محاكم الاحتلال أحكاماً مخففة على أعضاء التنظيم، مع أنهم حاولوا تفجير المسجد الأقصى وتفخيخ خمس حافلات لركاب فلسطينيين.
ورغم هذه الأحكام، إلا أنه تم لاحقاً إصدار عفو رئاسي عن أعضاء التنظيم ليطلق سراح آخرهم في العام 1990. وشكل هذا التنظيم، والكشف عنه، نقطة فارقة في تعامل المستوطنين مع الإرهاب، بعد أن تبينت لهم قدرتهم، عبر لوبي ضغط سياسي، على الفرار من العقاب، ولم يردعهم عن تنفيذ عمليات لاحقة، وخصوصاً أن أعضاء التنظيم بغالبيتهم تحولوا إلى نجوم بارزة في عالم المستوطنات، ولدى ناشطي الأحزاب اليمينية. ولم يكن الكشف عن التنظيم ومحاكمة أفراده حاجزاً أمام ظهور تنظيمات مشابهة لاحقاً.
• مع اندلاع الانتفاضة الأولى أصبحت اعتداءات وعمليات المستوطنين ضد الفلسطينيين أكثر سهولة
وطيلة المدة الفاصلة بين اكتشاف التنظيم السري الأول وظهور تنظيمات لاحقة، كان حاخامات المستوطنين، ومرجعياتهم السياسية، خصوصاً في حزبي "المفدال" (أصبح اليوم "البيت اليهودي") و"هتحيا"، الذي زال من الخريطة الحزبية، يشددون على ما سمّوه حق الرد وضرب الفلسطينيين رداً على العمليات الفدائية، مستفيدين من أجواء الفاشية التي سادت في تلك الفترة. ولم يمضِ وقت طويل في تلك السنوات (1983ـ1984) حتى كُشف عن تنظيمين إرهابيين آخرين، هما "ت أن ت" (أي إرهاب ضد الإرهاب)، وما عرف بعصابة "لفتا". وحاول أعضاء هذه التنظيمات، وجلهم من المستوطنين، تنفيذ عمليات تفجير في المسجد الأقصى، وفي بلدات فلسطينية، مستفيدين من سطوع نجم حركة "أمنا جبل الهيكل" وزعيمها غرشون سلمون.
وبعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، اختفى أثر التنظيمات السرية. وكان اليمين الاستيطاني قد بدأ يشق طريقه إلى قلب الإجماع الإسرائيلي، على الأقل لجهة الاعتراف بوجوب الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية والمستوطنات الأولى، وأبرزها "عوفرا" و"يتسهار" و"كريات أربع"، وجميعها كانت تابعة للتيار الديني الصهيوني مقابل مستوطنات "علمانية ومحافظة بعض الشي"، مثل "معاليه أدوميم" و"أريئيل". ومع ذلك، كان الحاخامات داخل المستوطنات يحثون، في تلك الفترة، على عدم الاستكانة والخضوع، ومواصلة أعمال البناء وتوسيع المستوطنات بالاستفادة من حكومتي الوحدة الوطنية بين حزبي "المعراخ" (العمل) و"الليكود".
• تواصلت عمليات "تدفيع الثمن" مع بدء الاحتلال نسبها إلى مجموعات فتية التلال
إلى ذلك، كانت المستوطنات في هذه السنوات مصدر فتاوى غنية تجيز قتل "الأغيار" (غير اليهود) والاعتداء على أملاكهم. وكان قادة المستوطنين ينسبون هذه الفتاوى إلى أنها "افتراضية" تهدف لإبداء رأي التوراة ولا تدعو بالضرورة للعمل، كما حدث بعد نشر كتاب "شريعة الملك" الذي يجيز قتل الأطفال والنساء ومَن في الأرحام، ووقع عليه الحاخام إسحاق شابيرا من مستوطنة "يتسهار"، ومدير المدرسة الدينية الاستيطانية "عود يوسف حاي"، وتعني "يوسف لا يزال حياً". وتواصلت عمليات "تدفيع الثمن" منذ العام 2008 وحتى اليوم. ومع أن الاحتلال فتح أكثر من مائة ملف في اعتداءات مختلفة، إلا أنه لم يقدم لوائح جدية وحقيقية إلا في ثلاث حالات فقط. وتواصلت عمليات "تدفيع الثمن" مع بدء الاحتلال نسبها إلى مجموعات "فتية التلال"، والحديث عن مجموعات من الشبان من داخل المستوطنات وخارجها ممن تسربوا من المدارس أو يعيشون ضائقة اجتماعية ويتمركزون في البؤر الاستيطانية غير القانونية، دون أي احترام منهم لمؤسسات الدولة وهيبتها. في المقابل، كانت المستوطنات الإسرائيلية تستوعب هؤلاء الفتية في مدارسها الدينية، وكانت تستعين بهم في التظاهرات ضد قوات الجيش لإحباط عمليات إزالة البؤر الاستيطانية.
ووفقاً للمعلومات التي أدلى بها "الشاباك" أخيراً في مسألة التنظيم الذي ينسب له "الشاباك" قتل شادية الرابي، تبدو هناك قواسم مشتركة مع المجموعة الجديدة من المدرسة الدينية "بري هآرتس" في مستوطنة "رحاليم"، لجهة رفض سيادة الدولة وسلطتها، لكنها بينت أيضاً وجود تعاون بين هؤلاء ومستوطني "يتسهار"، وعموم القيادة الدينية والروحية للمستوطنين، التي طالبت نتنياهو علناً وفي رسالة مكتوبة، الأسبوع الماضي، بتخليص "هؤلاء الفتية" من براثن تحقيقات "الشاباك" ونقلهم إلى الشرطة، فيما كشف عن أن وزيرة القضاء إيليت شاكيد لم تكتف باتصال هاتفي مع عائلة أحد المعتقلين في التنظيم بل التقت أفراد عائلة معتقل آخر، خلافاً للقانون.