دولي

"الذاكرة المتلاعب بها" والشتات الفلسطيني في الكويت

القلم الفلسطيني

يجوز لنا استعارة عبارة "الذاكرة المُتلاعب بها" من الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، والتي عنوَن بها أحد الفصول الفرعيّة في كتابه الفذ "الذاكرة والتاريخ والنسيان"، في تناول الهجوم الذي تعرّض له كتاب "النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت"، وكاتبه الباحث والأكاديمي شفيق الغبرا، والصادر أخيرا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة "ذاكرة فلسطين" في مشروع "بحث وتوثيق القضية الفلسطينية"، فالكتاب الذي يتحدّث، كما يوضح عنوانه، عن الجالية الفلسطينية التي نزحت إلى الكويت، إثر نكبة احتلال فلسطين في العام 1948، يتناول أحداثًا مفصلية مرّ بها الفلسطينيون/ الفلسطينيات، وشكلت وعيهم بحاضرهم الشتاتي "الجديد" حينها. ولكن دائمًا ثمة طرف آخر في حالة الشتات، ولا نعني الإسرائيلي طبعًا، بل الكويتي؛ ذاك المجتمع المضيف. لن نتطرّق إلى سياسات الشتات واللجوء هنا، بل إلى التاريخ والتأريخ للفلسطيني والكويتي، معًا، باعتبار، في هذه الحالة، أن تاريخ أحدهم هو تأريخٌ للآخر، والعكس أيضًا صحيح؛ إذًا، هي ذاكرة مشتركة!  لا يكون تناول ما دار في ضوء إصدار الكتاب بكتابة مقالات عن "الكتاب"، لا تعدو أن تكون مجرد "عرضٍ" لما جاء فيه، لأن قراءة الكتاب أمر يستوي فيه من يهاجمه ومن يدافع عنه، وإلا فلا منطق لا للدفاع، ولا للهجوم، حينها. وإنما يجب أن يتطرق التناول الجاد لهذا الأمر بالأساس لسياق الكتاب، باعتباره يتناول البحث التاريخي لسياسات الذاكرة، والتي هي عنصر 

"يجب أن يتطرق تناول الكتاب إلى سياسات الذاكرة، باعتبارها عنصراً أساسياً من هويتين هنا: الفلسطينية والكويتية" أساسي من عناصر الهوية؛ الهوية التي تقع في أزمتين وجوديتين لطرفيها، ها هنا: الفلسطيني والكويتي. وأعني نكبة الأول، واحتلال بلاد الثاني؛ أزمتان تشاركت وتعاضدت فيهما ذاكرتاهما. والمقصود، بوصفٍ أدق، قراءة لثلاثية "التاريخ والذاكرة والكتابة التاريخية" المشتركة، من خلال "تلقي" الكويتي ذاكرة الفلسطيني "عنه" في نكبته، وبناء الفلسطيني ذاكرته عن الكويتي في احتلال بلاده.

ثمة إرثٌ كبير من العنف في الحالتين: نكبة الفلسطيني، واحتلال وطن الكويتي، وهنا مصدر الأزمة في تناول الكتاب باعتباره وثيقة ذاكراتيّة. ولنوضح: في فصل "الذاكرة المُتلاعب بها" من كتابه، يكتب ريكور "إن قلب المشكلة هو في تعبئة الذاكرة من أجل السعي إلى الهوية أو طلبها أو المطالبة بها"، مشيرًا إلى ثلاثة أسبابٍ لهشاشة هذه الهوية، القائمة على هذا الشكل من التذكّر والذاكرة:

أولًا: العلاقة الصعبة مع الزمان؛ وهذه صعوبةٌ أوليّة تبرّر بالضبط اللجوء إلى الذاكرة، بما هي عنصر مكوّن زمني للهوية على صلةٍ بتقدير الحاضر، وإسقاطه على الماضي. ثانيًا: مواجهة "الغير" الذي نشعر به بوصفه تهديدا. ثالثًا: إرث العنف المؤسس لمجدٍ أو لمذلة، فالحوادث تعني لبعضٍ المجد، ولآخر المذلة، والعكس أيضًا صحيح.

من تابع تفاصيل الهجوم على الكاتب وكتابه، يمكن له بسهولة أن يرى أشكالًا مختلفة من أزمات الهوية في ما يتعلق بـتناول الذاكراتيّة "الكويتية" و"الفلسطينيّة" لكتاب الغبرا، وكأن استحضار حوادث معينة من تاريخ الكويتي والفلسطيني فيه موضعة تقابلية بالتضاد للحدثين التاريخيين المؤسسين للذاكرة والهوية (النكبة واحتلال الكويت)، فكل الهجوم الذي وُجه للغبرا تمخض بالنتيجة بالطعن في كويتيتهِ من ناحية هوياتيّة، وتشكيك في معاني "ضحية" النكبة (فلسطينيًا) طالما أنها هزّت معاني "ضحية" الاحتلال (كويتيًا).

إذا ما جاز توسيع المنظور، ولو قليلًا، بالاسترشاد بحديث ريكور عن الهوية والذاكرة، يمكن الإشارة إلى سوء إدارة العنف المؤسس لـ"مذلتين": النكبة الفلسطينية والاحتلال الكويتي، أوصل الفلسطيني والكويتي إلى خلق "ذوات" نقية في صورة ضحية خالصة، تطهّرية، لا تقبل الاعتراف بزللٍ إنساني، حتى في ظروف متطرفة واستثنائية، كالحرب على مستوى الذات. ولعل هذا ما أشار إليه شفيق الغبرا في رده البسيط (والمركب في آن) على إشارته في شأن قتل كويتيين مجموعة من الفلسطينيين، في مقابل حوادث عنف فلسطينية ضد الكويتيين إبّان الاحتلال العراقي للكويت؛ إذ أشار إلى أن تلك حوادث حدثت فعلًا، وشهودها على قيد الحياة، وجلّ ما فعل أنه جاء على ذكرها فحسب، كما هي: حوادث فادحة في ظروف فادحة.

على بساطة الرد، إلا أنه كذلك ردٌ مركب، يكشف أهمية "الذاكرة الجمعية"، لا باعتبارها حدثًا ثابتًا، إنما ممارسة مستمرة، فقط إن كانت واعيةً لسياسات الذاكرة والنسيان في ما يتعلق بالذات والآخر. وفي السياق الفلسطيني في الكويت، فإن هذه الذوات وآخرها هي تنويعات على ذات الهوية الواحدة المتعددة. لكن الأمر لم يكن كذلك، فالردود العنصرية تجاه الغبرا وفلسطينيته وكويتيته معًا تشي بأزمة على مستوى الذات والآخر في الهوية الكويتية، جعلت من حضور الآخر الفلسطيني، كضحية للذات الكويتية، مساويًا لفداحة الاحتلال ومهدّدًا، كما كان الاحتلال بذاته.

تلك أزمة في الذاكرة مرت بها كل هويّة عانت من "مذلة" و/ أو "مجد"، تاركة بصماتِها على المتخيل الجمعي، إلا أن الوعي بتلك الأزمة اختلف من جماعةٍ إلى أخرى، فسلوك اليابانيين والألمان تجاه إرث الذاكرة من الحرب، مثلًا، اختلف عن ذاك بشأن الحلفاء. ولا يعدّ الأمر تناولًا لحدثٍ تاريخي مليءٍ بالمعاني فحسب، إنما هو تناولٌ لذاتٍ هوياتيةٍ ممتدّةٍ في الزمن (أو هكذا تدّعي الذوات الهوياتيّة كلها)، ونعني بالزمن الذاكرة والنسيان، وبقدر امتدادها تتكون جماعتها العضوية. وحوادث كتلك يجب أن تكون قادرةً على رسم حدود الجماعة وهويتها، ليس بانغلاق تطهّري، ولا بشيطنة، إنما بذاكرةٍ قادرةٍ أن تتسع للذات وآخرها. ولا يكون هذا الأمر من دون تناول التاريخ والذاكرة بموضوعية، لا تبتغي تأكيد معانٍ متجاوزة، سواء عن الضحية أو الجاني. تلك أزمة بعض الهويات والذاكرات، كالعربية، والكويتية والفلسطينية منها.

عبدالله البياري

 

من نفس القسم دولي