دولي

ذكاء استخباري

القلم الفلسطيني

ببساطة، لا يمكن لنا تخطي موضوع  فضح هوية أعضاء الخلية الأمنية الإسرائيلية دون تسجيل ملاحظاتنا عليها. فالبيان الصادر عن كتائب القسام، الذي احتوى صورا واضحة للمجموعة، عكس لممارسة بديهية في ظاهرها، إلا أنها استثنائية في باطنها. والحقيقة، أن دعوة القسام جمهور قطاع غزة، تقديم معلومات تتعلق بأنشطة الخلية، كشفت عن سلوك جديد على مستوى الساحة الفلسطينية، رغم قدمه نسبياً على الصعيد العالمي. 

هذا السلوك يُعرف باسم التعهيد الجماعي، وهو نموذج تنفيذي حديث لحل المشكلات المستعصية، أو طلب المساعدة، من خلال إشراك الجمهور، واستدعاء ذكائه وتجربته وقدراته، للانخراط الفعلي في حلها. والمفهوم لا يقتصر على مهمة محددة، ويمكن أن يُوظف لتأدية واجبات متنوعة عن بعد، سواء بأجر مدفوع، أو بمبادرة خاصة مجانية. ويمتاز بعدد من الخصائص، منها أن الجمهور المستهدف من الدعوة معلوم، والمهمة المطلوبة واضحة، والمردود جليّ، والجهة مطلقة التعهيد مُعلنة؛ كما تعمل على تفعيل وتحفيز خاصية التفاعل والمشاركة المتبادلة بين الجمهور، وهي تنشط حصراً على شبكة الإنترنت، سيما مواقع التواصل الاجتماعي.  

وبالعودة إلى إعلان القسام، يمكن أن نسجل للتاريخ، أنها المرة الأولى التي تتم فيها الاستعانة بجمهور الإنترنت للمساعدة في استكمال كشف خيوط قضية أمنية، كانت ولازالت اختصاصا حصريا، مغلقا وسريا لأجهزة الأمن. وهذا، بكل موضوعية، يعكس لحالة تطور تشهدها المؤسسة الاستخباراتية للقسام، ونجاحها في تسخير مفاهيم علمية، تخدم مختلف أهدافها. ولعل القارئ الكريم، متشوق لمعرفة كيفية اشتغال التعهيد. فالأسلوب، بمستواه المعلوماتي، بسيط، ويعتمد على قيام الاستخبارات القسامية بتنشيط مهمة محددة، تستوجب من الجمهور تقديم معلومات مرتبطة بالشخصيات المعلن عنها. وهنا يبدأ الفرد استدعاء ذاكرته قصيرة وطويلة المدى، بغرض التوصل إلى تطابق سيميائي على مستوى العلامة، ومن ثم استخلاص معلوماتي، يشمل خط سير وعمل هذه الوحدة داخل قطاع غزة. فالمهمة لا تقتصر على الفرد الأمني، بل تتسع لتشمل جمهور القطاع بكافة أطيافه.  

ومن دون أن نتعمق في المفهوم، حتى لا يختلط على القارئ، يمكن لنا تسجيل عدد من الملاحظات السريعة بشأن توظيف القسام لهذا النوع. فعلى مستوى العدو، لا يمكن كبح جماح الفضول المعلوماتي لجماهيره، ما يعني تعاظم إمكانية مشاركته رغما عنه، من دون أن تستطيع الرقابة الإسرائيلية فعل شيء، سوى إطلاق التحذير تلو الأخر. وهنا نشير، إلى أن البيئة الاتصالية الجديدة، مكنت الجمهور من المشاركة بقوة في تفاعلاته، بعكس البيئة التقليدية، التي يخضع فيها تدفق المعلومات لسيطرة مركزية. وبالإسقاط على مفهوم التعهيد، لا يمكن ضبط حركة التفاعل مع القضية داخل البيئة الشبكية للخصم، وجل ما يمكن القيام به تقليل هامش الخسارة لا أكثر.

الملاحظة الثانية، والتي اعتبرها أكثر أهمية، هي تعمد القسام رفع منسوب الوعي الأمني لدى جمهور قطاع غزة، والانتقال به من حالة مستقبل خامل، إلى وضع فاعل نشط. وهذا بحد ذاته سلوك استراتيجي، لأنه يضمن ممارسة أمنية شعبية دائمة، ترصد للمواقف والشخصيات والتحركات الغريبة والمشبوهة، ومن ثم تبني فعل مضاد تجاهها، أقلها الإبلاغ عنها. ولنا أن نتخيل حجم الضرر الذي تعرضت له أجهزة الأمن الإسرائيلية، وضيق مساحة العمل المستقبلي، إن لم يكن استحالتها. فالكل الشعبي الآن مجند لخدمة وحفظ وتصليب الموقف الأمني الداخلي.

ثالث هذه الملاحظات، ما يتعلق بالبعد الدعائي للإعلان. ولن نبالغ حين نقول إنها شكلت صدمة محسوبة للخصم، وعرته أمام جمهوره بشكل مخزٍ، يناقض ما دأب على زرعه لسنوات طويلة. فالارتدادات لا تشمل محيط المعركة مع غزة، بل يتعداها لجغرافيات إقليمية ودولية، تعمد القسام فضحها على هذا الشكل، ليحيل أفرادها إلى التقاعد الإجباري، أو حتى للملاحقة القانونية؛ في حال ثبت ضلوعهم في مهام داخل دول بعينها.  

وأخيراً، لا يسعنا إلا تأكيد علو قامة أجهزة استخبارات المقاومة، ما يجعلنا مطمئنين على تطورها، وقدرتها رعاية وحماية وحفظ جبهتنا الداخلية من مختلف المخاطر المحدقة بها.

حيدر المصدر
 

من نفس القسم دولي