دولي

حماس بعد 31 عامًا أين تضع أقدامها

القلم الفلسطيني

حين الحديث عن الحركتين الكبيرتين اللتين تقتسمان المشهد الفلسطيني، فتح وحماس، فإنّ الحديث عن فتح في المناسبات التي تخصّها كذكرى انطلاقاتها ومؤتمراتها العامّة لا يكون كالحديث عن حماس. فمع أنّ حماس تحوز على قدر محاصر من السلطة في قطاع غزّة؛ مؤسَس في جانب منه على دخولها الفعلي في مشروع السلطة الفلسطينية بالانتخابات وتشكيلها حكومة، إلا أنّ الجانب السلطوي في حماس تجري معالجته عادة من حيثية علاقته بالجانب المقاوم في شخصية الحركة وانشغالاتها، بالإضافة إلى البحث في أزماتها التي لا تقتصر أسبابها على اختيارات الحركة السياسية المستجدّة، وإنما في الوقت نفسه ناجمة عن خطها الأصلي وهو المقاومة.

في المقابل، يجري الحديث عن فتح من جهة أنّها حزب السلطة المهيمنة حصرا. والحال هذه؛ لا تعدو مكانة الحركة وفاعليتها هذه الحيثية. لا يعني ذلك إلا تراجع الفاعلية النضالية للحركة، وتآكل حيويتها الذاتية المنفصلة عن السلطة، وتحوّلها للاعتماد الكلّي على وجود السلطة، وهو واقع مدمّر يحاصر الخيارات النضالية في الضفة. فبعد الانقسام، وبفعل الاستهداف الأمني المركّز والشامل لفصائل المقاومة، ولمجمل الحركة الوطنية في الضفّة، بقيت فتح تتمتع وحدها بحرية الحركة، وهي التي يعوّل عليها لتطوير أدوات نضالية تواجه تحديات المرحلة، ولا سيما التغول الاستعماري على الفلسطينيين في الضفة والقدس، إلا أن اعتمادها الكلّي على السلطة يمنعها من ذلك. فهذا الاعتماد جرّد فتح من عافيتها النضالية، ثم يصير النضال تناقضا مع مصالح السلطة التي تعتمد عليها فتح كليّا، وبالتالي يصبح النضال نقيضا للمصلحة الفتحاوية، وهذه مأساة بالنسبة لحركة شكّلت يوما ما العمود الفقري للحركة الوطنية.

ربما تعيش حماس هذه الأيام، في ذكرى انطلاقتها، نشوة تبدو في ظاهر الأمر طارئة، فقد خرجت بإنجاز أمني وعسكري وسياسي مهم في آخر جولة مواجهات مسلّحة مع الاحتلال في قطاع غزّة، وتمكّنت بعض خلاياها في الضفة الغربية من تنفيذ عدد من العمليات العسكرية، وهو أمر يذكّر بسنوات الحركة الأولى التي كانت تحرص فيها على محاولة تنفيذ عمل مسلّح في ذكرى انطلاقتها يؤكّد على هويتها وخياراتها ومعنى وجودها. وهي وإذ تشعر اليوم بالنشوة لأنّ ذكرى انطلاقتها الحادية والثلاثين قد حُفّت بإنجازات عسكرية، فهذا يعني أن هذه النشوة ليست طارئة، وإنما تعبير عن حيويّة الحركة واستمرارها على خطّها الأصيل، بينما كانت حركة فتح بعد أقلّ من عشر سنوات على الإعلان الرسمي عنها، قد أخذت تبحث عن مسارات سياسية تُناقض منطلقاتها التأسيسية، وتتجلّى مآلاتها اليوم في المأساة الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس والانقسام الفلسطيني.

بالتأكيد، لم تكن إنجازات حماس الأخيرة مقتصرة على الجانب العسكري والأمني، على أهميته بالنسبة لحركة مقاومة، فالحركة التي أقصتها السلطة الفلسطينية عن المجال العام في الضفة الغربية، ما تزال تمسك بالسلطة الفعلية في قطاع غزّة، وقد تمكنت أخيرا بفضل سلسلة خطوات، منها صمود الفلسطينيين في قطاع غزّة، وصمود الحركة نفسها، وابتكار أدوات لتوحيد العمل الوطني في قطاع غزّة، وتطوير شكل من أشكل المقاومة الشعبية ضَغَطَ على العصب الإسرائيلي دون أن ينتهي إلي حرب واسعة، بالإضافة لتطوير أدواتها المسلّحة.. هذه الخطوات، تمكّنت الحركة بفضلها من تخفيف الحصار، وفرضت على أشرس خصومها الإقليميين، أي السلطات المصرية، التعامل معها. وحتى الساعة، لم يعد الاحتلال قادرا على فرض معادلته الأمنية التي تحبط سلاح المقاومة في قطاع غزّة بصورة مطلقة، وإنما ثمة قدر من التوازن يحسب للحركة بالنظر إلى ظروفها الخاصة.

ثمّة اعتبارات لا بدّ من الاعتداد بها حين مناقشة أزمات الحركة، فعلى خلاف ما هو عليه حال حركة فتح، لا ينبغي أن تُفسّر أزمات حماس بأداة تحليل واحدة لا توظّف سوى إشكالية دخولها في السلطة وجدلية علاقة السلطة بالمقاومة، فالأساس في أزمات الحركة هو تمسّكها بخطها المقاوم. ففي كل الأحوال، وأيّا كان موقعها من السلطة، سوف تتعرض لحملة إزاحة شرسة عن الضفة من الاحتلال، وكذلك من السلطة إن كانت هذه الأخيرة متمسّكة بخياراتها السياسية ووظائفها الأمنية. وحتى لو أن حماس لم تدخل في السلطة، فإنّ صدامها مع السلطة من بعد انتهاء انتفاضة الأقصى غير مستبعد في حال أرادت حماس أن تحافظ على سلاحها، والأمر نفسه يمكن قوله بالنسبة للجهود الدولية والإقليمية الرامية لحصار الحركة وإخضاعها، فالحركة في النهاية تمارس عملا مقاوما لا بدّ وأن يواجه هجمات وضغوطا من هذا النوع؛ تنجم عنها أزمات كهذه.

ليس هذا دفاعا عن دخول الحركة السلطة، بل إنّ هذه التجربة لم تخضعها الحركة لمراجعة مركّزة، وإنما يجري تناول التجربة من زاوية القدرات العسكرية التي راكمتها الحركة في غزّة، ومن زاوية فرضيات محدّدة، كالنتائج المحتملة في حال لم تدخل الحركة السلطة، وهي نتائج مفترضة تصبّ في صالح خيار الدخول، دون النظر إلى فرضيات أخرى، ونتائج أخرى متحقّقة بالسلب على مجمل القضية الفلسطينية.. ولكن المقصود أنّ قدرا مهمّا من أزمات حركة المقاومة طبيعيّ طالما أنّها تصطدم بالقوى المناقضة للمقاومة، وهي أكثر القوى المهيمنة اليوم. فقد باتت الولايات المتحدة اليوم تحمل ملفّ الحركة، باحثة عن إدانة لها في الأمم المتحدة. بالتأكيد، ينطوي ذلك على دلائل على صمود الحركة وتراجع قدرة الاحتلال.

يبقى أمام الحركة الكثير من التحديات، والأسئلة التي يَنبغي أن ينظر في كفاءتها في البحث عن إجابة لها، وإذا كانت كثير من أزمات الحركة موضوعية، وهي متلقٍ فيها أكثر مما هي فاعل، فثمة ما هو ذاتي بالكامل أو بنسبة من الأمر،

ومن ذلك قدرة الحركة على الاستثمار في رأس مالها البشري والحفاظ عليه، والعودة لتفعيل كوادرها وعناصرها، وتوسيع بنيتها التنظيمية، ولا سيما في الضفة التي يفترض أنها ساحة الصراع الرئيسة، وهي ساحة تحتاج فهما دقيقا، وتكاملا وثيقا بين مجمل مواقع الحركة وأقاليمها وأجهزتها.

ساري عرابي

 

من نفس القسم دولي