دولي

غزَّة والأمن القومي المصري

القلم الفلسطيني

في أثناء الحملة العسكرية الإسرائيلية العدوانية على قطاع غزّة، الأسبوع الماضي، والتي شابها قدر كبير من التخبّط والرعونة، وانتهت بفشل سياسي وعسكري ذريع، وصل إلى درجة "الفضيحة"، حسب الوصف السائد لها في الفضاء الإعلامي الإسرائيلي، ارتفعت أصوات نخبويين مصريين (محسوبين بكل أسف على "المُثقفين المُستنيرين"، حسبما يحلو لهم وصف أنفسهم، المطالبين بالدولة العصرية المدنية) بإعلانهم عدم التعاطف بأي حال مع غزّة، بل وأبدى بعضُهم شماتةً ظاهرةً في المقاومة الفلسطينية، وتأييداً مكتوماً لإسرائيل.

على الرغم من أن تلك الأصوات الناشزة لا تمثّل شريحةً عريضةً في الوسط الثقافي المصري، إلا أنّ ارتفاعها بتلك الصورة الزاعقة أمر يستدعي وقفةً طويلة، لا سيّما أن خروجها قد تكررّ من قبل، إبّان الحرب الإسرائيلية الأولى على غزّة في شتاء 2009، والثانية في صيف 2014، في مشهد مؤسف للغاية، حمل مزيجاً من الجهل التاريخي، والغباء السياسي، والعمى الاستراتيجي، والانحطاط الأخلاقي. 

يتعيّن القول في البداية إن الأمن القومي يندرج تحت بند الثوابت، غير الخاضعة للتغيير بين آنٍ وآخر، فلا مجال فيه للابتكار. وتقوم نظرية الأمن القومي لأيّة دولة وفقاً لثلاثة محددّات: الجغرافيا، والتراكم التاريخي لهذه الجغرافيا، والرؤى المختلفة للحكّام الذين تولوا زمام السلطة لهذا الأمن عبر التاريخ، وتهدف حماية الأمن القومي إلى تعظيم المصالح، وتقليل المخاطر النابعة من مصادر التهديد بالتعامل الحاسم معها.

ووفقاً للأمن القومي المصري الذي تشكّل عبر التاريخ، يبدأ الدفاع عن مصر شمالاً من جبال طوروس جنوب  الأناضول، مروراً بسورية وهو خطّ دفاعها الأوّل، ثمّ تُشكّل فلسطين دفاعها  الثاني، ثمّ تأتي سيناء لتمثّل خطّ الدفاع الأخير عن مصر، فمن يُسيطر عليها يُهدّد الوادي، أو العُمق المصري. وقد تحدّثت كتابات أبناء مصر الأبرار، من أمثال جمال حمدان وحامد ربيع وطارق البشري، تفصيلاً في هذه النقطة، وأكّدوا جميعاً على أن التاريخ يقول إن نجاح أيّة قوى معادية في الوصول إلى سيناء كان النذير بنجاحها في الاستيلاء على مصر، وشدّدوا على أن مصر تكون في موقع دفاعي أفضل، إذا ما واجهت عدّوها خارج حدودها، قبل وصوله إلى سيناء.

لقد ترسّخت الأهمية الجيو استراتيجية لأرض الشام بالنسبة لمصر، في وعي أبرز حكّامها المُتعاقبين عبر تاريخها الطويل، بدءاً من تحتمس الثالث، ومروراً بصلاح الدين الأيوبي ومحمد علي، وانتهاءً بجمال عبد الناصر، فقد قامت رؤيتهم جميعاً على أن قوّة مصر تقوم على تماسك جناحها الشرقي، وأن الدفاع عنها يبدأ وينتهي في الشام، وعدم التغاضي عن وجود قوة معادية أو متربّصة بمصر على بوّابتها الشرقية.

وإذا استعرضنا تاريخ المنطقة، والقوى الدولية ذات المطامع التوسّعية، والتي سعت إلى الاستيلاء عليها، بدءاً من الصليبيين، والمغول، ومروراً بالعثمانيين، وانتهاءً بالفرنسيين، والإنكليز، تبرز الحقيقة التاريخية الجلية التي تقول إنه في حالة فشل الشام في التصدّي للقوى الاستعمارية، وسقوطه في براثنها، فإنّ تلك القوى تزحف نحو مصر مباشرة، ويُخبرنا التاريخ المصري أن بوّابة مصر الشرقية تمثّل نقطة الضعف الرئيسية في أمنها القومي عبر العصور، وأنّ كلّ الغزاة الذين جاؤوا إلى مصر دخلوها من بوّابتها الشرقية، وكانت الحملة الفرنسية الاستثناء الوحيد من هذه القاعدة التاريخية.

كما يُخبرنا تاريخنا الحديث أن القوى الاستعمارية حرصت دوماً على عزل مصر عن الشام، وتأكّد هذا بصورة أكبر منذ قيام إسرائيل التي تُعدّ مصدر التهديد الأوّل والرئيسي للأمن القومي المصري، وقد دخلت معها في خمس حروب عسكرية مباشرة في نحو ربع قرن منذ نشأتها، واستولت في إحداها على سيناء، قبل نجاحنا في معركة العبور المجيدة 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973. وعلى الرغم من حالة السلام الناتجة عن اتفاقية كامب ديفيد، والتي غرّت بعض السذّج من دعاة التطبيع، إلا أن إسرائيل لم تكّف طوال العقود الماضية عن التحرّش بالأمن القومي المصري، تارة بصورة ناعمة بمحاصرة الدور المصري، ومحاولات تقزيمه في المنطقة كلها، لا سيّما في مجاله الحيوي في دول حوض النيل، وأحياناً بصورة خشنة عبر مهارشات على الحدود في سيناء، أو بمحاولات الاختراق الداخلي عبر شبكات التجسّس التي تكشف عنها الأجهزة الأمنية المصرية بين حين وآخر. ويكفي هنا تذكّر تصريحات الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، الجنرال عاموس يادلين، في أكتوبر/ تشرين الأول 2010، علناً وصراحة، عن عدم توّقف المحاولات الإسرائيلية، منذ العام 1979 من أجل توليد بيئة مُتصارِعة، ومُتوتِرَة دوماً، داخل المجتمع المصري.

وبعد هذا كله، خرج علينا بعضهم ممن قعدت بهم أيديولوجيتهم، ليعلنوا عدم تعاطفهم (مجرّد التعاطف) مع غزّة، لا لشيء سوى النكاية السياسية، والمكايدة الأيدولوجية، تحت تأثير الخصومة الفكرية المُستعرَة لجماعات الإسلام الحركي، باعتبار أن حركة حماس هي التي تُسيطر على قطاع غزّة. ومهما كانت هوّة الخلاف مع "حماس"، فإنّ التناقض الأساسي يظلّ مع إسرائيل، عدّونا التاريخي دون سواها.

تكمن المفارقة الطريفة في التناقض الكبير، بين الذين ما فتئوا يُسفّهون أعمال المقاومة الفلسطينية، ويحمّلونها دوماً مسؤولية ما يجري لغزّة، وبين خطاب المرارة الذي راج أخيراً في الفضاء الإعلامي الإسرائيلي، بل وصل إلى حدّ الاعتراف الصريح بالهزيمة، والتي تمثّلت في نجاح "حماس" في تحقيق حالةٍ ردعية، منه ما ذكرته المُعلِّقة السياسية، شمئريت مئيري، عن تحقيق الحركة نصرا واضحا في جولة خانم يونس الشهر الحالي، والتي انتهت بنتيجة واحد/ صفر لصالح "حماس"، على حدّ تعبيرها، وقد تمثّلت إنجازاتها في تجاوز تأثير "القبّة الحديدية"، وضرب أهداف في العمق الإسرائيلي، وتمكّنها من تحديد موعد وقف إطلاق النار، بما يخدم مصالحها، فضلاً عن رباطة جأش مقاتليها، وما يمثّله كنذير سوء لإسرائيل في المستقبل.

صفوة القول إن القضية الفلسطينية (وغزة) أمر يقع في صميم مفهوم الأمن القومي المصري، وإنّ اختزالها في أسر حسابات سياسية بالغة الضيق، والاستسلام لنزعات تصفية الحسابات وتغليب الحزازات الأيديولوجية، والأزمات السياسية الداخلية، على حساب تجاهل الأخطار الخارجية والثوابت الوطنية، أمر من الحماقة الاستراتيجية الكبرى بمكان، وهو ما يستلزم إعادة التأكيد على البديهيات، من أجل التحرّر من أغلال الارتكاسة النفسية، والشيخوخة الحضارية التي أصابت بعض بني جلدتنا، وجعلت عقولهم أسيرة تصوّرات مشوّهة، لا تمّت بأي صلة لماضينا أو حاضرنا أو مستقبلنا.

أحمد طه

 

من نفس القسم دولي