دولي

الشتات والانقسام الفلسطيني

القلم الفلسطيني

في حزيران/ يونيو 2007، تأزم الوضع الداخلي الفلسطيني على مختلف الأصعدة السياسية والأمنية والاجتماعية، وانفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وتعددت مصادر القرار، ودخل الوضع السياسي في نفق مُظلم طويل، عنوانه الرئيس صراع حول السلطة بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، ورفض حركة فتح التنازل عن السلطة. وتعمقت أزمة الانقسام بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة عام 2007. غير أن تداعيات هذا الانقسام لم تتوقف خلف حدود الداخل الفلسطيني (غزة والضفة) بل امتدت إلى الشتات الفلسطيني، الذي لطالما كان صورة مرآة للواقع الفلسطيني الداخلي، بكل تجلياته وتشوهاته.

شكلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987 - 1993)، علامة بارزة في نشاط الجاليات الفلسطينية في الغرب، إذ شهد النشاط الفلسطيني موجات عالية من حملات التوعية بالحقوق الفلسطينية وهمجية الاحتلال الإسرائيلي. وقد أحدث حراك الجاليات الفلسطينية في الشتات اختراقات هامة في جدار الرأي العام الخارجي، الذي لطالما مال إلى الراوية الإسرائيلية، من دون الاكتراث بالرواية الفلسطينية المقابلة. وتجلت نشاطات الجاليات الفلسطينية بالخطاب الوحدوي المُعبر عن الضمير الفلسطيني الجمعي، والهوية الفلسطينية الواحدة. غير أن هذا الحال لم يدم طويلاً، إذ ظهر انقسام بَيِّن في الطيف الفلسطيني مع انطلاق عملية السلام في مدريد (1991)، وما تبعها من مفاوضات علنية وسرية بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، انتهت إلى توقيع اتفاق أوسلو (1993)، واعتراف المنظمة بإسرائيل. وقد أصابت التطورات السياسية التي شهدتها تلك الفترة الجاليات الفلسطينية بإحباط، تُرجم في الواقع بانقسام على مستوى الجاليات، إذ برزت تجمعات تؤيد توجهات قيادة منظمة التحرير، تقابلها تجمعات تعارض الاعتراف بإسرائيل، وترى في أوسلو قفزاً على الحقوق الفلسطينية الثابتة، وتصفية للقضية الفلسطينية، لا سيما حق العودة، الذي يخص السواد الأعظم من أبناء الجاليات الفلسطينية في أوروبا. 

ومع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000)، حاولت المنافي الفلسطينية تجميع شتاتها، واستجماع قواها من جديد، إلا أن اغتيال الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في العام 2004، وتراجع زخم الانتفاضة، وما تلاه من تغييرات في النهج السياسي الفلسطيني، أعاد أبناء الجاليات الفلسطينية إلى المربع الأول من الإحباط. وتعمقت هذه الحالة، مع اكتمال فصول الانقسام السياسي بين حركتي فتح وحماس في العام 2007. 

وكما أدى الانقسام في الساحة الفلسطينية إلى تمزيق الكيانية الفلسطينية، أدى كذلك إلى تمزيق الجاليات الفلسطينية التي أخذت بالتشكل في كيانات، برزت فيها ثلاثة تيارات رئيسية، التيار المؤيد لحركة حماس، وما تمثله من "مقاومة"، ورفض للتسوية السياسية. وتيار حركة فتح، المؤيد لكل الحراك السياسي الذي يقوده الرئيس الفلسطيني محمود عباس. وتيار مستقل أو محبط فضل النأي بالنفس بعيداً عن التجاذبات السياسية التي تعصف بالساحة الفلسطينية. ومما زاد الطين بلة، انقسام حركة فتح ما بين تيار يؤيد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وتيار يؤيد خصمه محمد دحلان، وقد حرص الأخير على تعزيز وجوده بين أبناء الجاليات الفلسطينية في أوروبا. 

كما عانى جسد الجاليات الفلسطينية من علة الانقسام الفلسطيني، بشكل مادي ظاهر، إذ نقلت الفصائل الفلسطينية (فتح وحماس) خلافاتها إلى الساحات الخارجية، حيث حاولت فتح السيطرة على السفارات، والهيمنة على الجاليات، عبر تشكيلات تزعم تمثيل "الشرعية"، في حين انصرفت حماس إلى تأسيس كيانات داخل الجاليات، في محاولة للتخلص من هيمنة فتح. وفي ما جرى في بريطانيا ودول أميركا اللاتينية، خلال السنوات الخمس الأخيرة، مثال حي على حالة التجاذب والتنازع التي عمقت الخلافات والانقسامات داخل أبناء الجاليات الفلسطينية، حتى صارت هذه الجاليات ترجمة حرفية لحال الانقسام الحاصل في الوطن. 

وأثرت خلافات كبار السن، الذين نقلوا تشوهات الوطن إلى المنافي، على تفاعل الجيل الشاب من الفلسطينيين مع قضية وطن أجدادهم، وقضية آباءهم، ودفعت الكثيرين منهم إما للابتعاد إحباطاً وقرفاً، أو الاكتفاء بمناصرة القضية الفلسطينية من خلال منظمات غير فلسطينية تنشط في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية وتناهض الاحتلال الإسرائيلي، بأجندات سياسية بعيدة عن الخلافات الفلسطينية المعقدة. وفي أحسن الأحوال، ذهب بعض الناشطين من الشباب الفلسطيني المولود في المهاجر إلى تكوين مجموعات، في المجال الإلكتروني، لدعم الشعب الفلسطيني في مواجهاته مع الاحتلال، مع الـتأكيد على استقلالية هذه المجموعات عن أي من الفصائل الفلسطينية. 

انعكس الانقسام الواقع في صفوف الجاليات الفلسطينية، انقساما في الخطاب السياسي الموجه للرأي العام الأجنبي، حيث توجد هذه الجاليات. وقد ظهرت ثلاثة خطابات أساسية. الخطاب الأول، تمثله السفارات، ومكاتب منظمة التحرير، وأقاليم حركة فتح. وركز هذا الخطاب على تكرار كل ما يقوله الرئيس الفلسطيني بخصوص عملية السلام والعلاقة مع إسرائيل. أما الخطاب الثاني، خطاب حركة حماس والمنظمات الأهلية الممولة منها، فقد ركز على حق الشعب الفلسطيني في المقاومة، وحق العودة، ورفض التسويات غير العادلة. وما بين الخطابين، ظهرت حركة مقاطعة إسرائيل (BDS)، كتيار ثالث يخاطب الرأي العام الغربي بلغة أكثر براغماتية، يركز على عنصرية إسرائيل وضرورة مقاطعة إسرائيل، أكاديميا وتجارياً، وفرض العقوبات عليها بالطريقة ذاتها التي مارسها العالم ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. هذه التعددية في الخطاب الفلسطيني، وتباعد المسافات بين الطروحات التي يقدمها كل طرف، أدت إلى تشويش الرأي العام الغربي، وبدت الرواية الفلسطينية غير متناسقة، غير متماسكة، غير مقنعة. 

وأدى الانقسام الفلسطيني الواقع في (الوطن) وخارجه، وارتباك الخطاب الفلسطيني، إلى تمكين الراوية الإسرائيلية التي أعادت ترتيب نفسها بخطاب أكثر تماسكاً وتأثيراً، لم تظهر فيه الخلافات، وربما الانقسامات التي مرت بها الأوساط السياسية الإسرائيلية أيضا. وركزت الدعاية الإسرائيلية على إقناع العالم بأن الفلسطينيين المنقسمين على أنفسهم، المختلفين على المؤسسات، المتقاتلين بالسلاح على أموال الدول المانحة، الفاسدين... إلخ، لا يستحقون دولة يعترف بها العالم، ولا هم جديرون باحترام العالم. وأدى كل ذلك إلى تقزيم القضية الفلسطينية والمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، وتضخيم الذات الفصائلية، وطغيان الأجندات الفصائلية الضيقة على حساب الرؤية الوطنية الجامعة. 

نواف التميمي

 

من نفس القسم دولي