دولي
لماذا لا تدمّر إسرائيل السلطة الفلسطينية؟
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 05 نوفمبر 2018
منذ انفجار الانتفاضة الفلسطينية الثانية العام 2000، لم يترك قادة إسرائيل اتهاما إلا وألصقوه بالسلطة الوطنية الفلسطينية، سواء كانت الحكومة القائمة في إسرائيل، يمينية أو يسارية أو وسطا، طبعا بالمقاييس الإسرائيلية، وسواء أيام الرئيس ياسر عرفات أو الرئيس محمود عباس، أو كان الوضع يتعلق بقطاع غزة بعد الانقسام الفلسطيني وسيطرة حركة حماس على غزة. بدأت الاتهامات من حكومة إيهود باراك العمالية التي اتهمت السلطة أنها ردّت باعتماد "الإرهاب" على "سخاء" حكومة باراك الذي قدّمته للفلسطينيين في مفاوضات كامب ديفيد 2000. ومنذ ذلك الوقت، لم تترك إسرائيل فرصة عبر كل الحكومات، شارون، أولمرت، وصولا إلى نتنياهو، إلا وأعادت فيها هذه الاتهامات التي تقول إن السلطة الفلسطينية تمارس الإرهاب وتدعمه وتموّله، ردا على دعوات "السلام الإسرائيلية" واليد الإسرائيلية الممدودة إلى الفلسطينيين.
على الرغم من قائمة الاتهامات الطويلة التي دبجتها إسرائيل بمواجهة السلطة الفلسطينية وسلطة "حماس" في غزة، والتي استندت إلى قائمةٍ طويلةٍ من الأكاذيب الإسرائيلية التي حاولت فيها التغطية على سياستها الاحتلالية الدموية في الأراضي الفلسطينية. وعلى الرغم من اختلاف الحكومات الإسرائيلية التي تعاقبت، لم تهدم إسرائيل السلطة الفلسطينية ولا اجتاحت قطاع غزة وقضت على سلطة "حماس" هناك، على الرغم من ثلاث حروب شنتها على القطاع في فترة سيطرة "حماس"، على الرغم من امتلاكها القدرة العسكرية على القيام بهذه المهمة التي طالما هدّدت بها طوال السنوات المنصرمة. وكانت هذه التهديدات قد وصلت إلى ذروتها في عملية "السور الواقي" التي قرّرتها حكومة شارون، حيث اجتاح خلالها الجيش الإسرائيلي المدن الفلسطينية في الضفة الغربية في نهاية مارس/ آذار 2002، وصولا إلى محاصرة مقر الرئيس ياسر عرفات، وأعاد احتلالها حتى كادت السلطة الفلسطينية تسقط تحت وقع العمليات العسكرية. وعلى الرغم من دموية ذلك الاجتياح، والاجتياحات التالية التي أقدمت عليها إسرائيل، فإنها كانت حريصةً على بقاء السلطة الفلسطينية، والعمل على عدم انهيارها النهائي، على الرغم من سياسات الإضعاف التي حولت السلطة إلى هيكل نظري، يفتقد إلى سلطاته التي تم الاتفاق عليها في اتفاقات أوسلو.
كان من الملفت أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لم تعمل على القضاء على السلطة الفلسطينية. بالتأكيد هناك اعتبارات أساسية منعتها من ذلك، ليس لعدم القدرة العسكرية، بل لعدم القدرة على تحمل النتائج السياسية لانهيار السلطة الفلسطينية، وما يترتب على ذلك من استحقاقات وأعباء على إسرائيل.
السبب الأبرز لحفاظ إسرائيل على السلطة، وعدم دفعها إلى الانهيار، هو أن وجود السلطة يجعلها عنوان المعركة الإسرائيلية، لأن خطاب إسرائيل السياسي في تبرير جرائمها في الأراضي الفلسطينية يقول: ما تقوم به إسرائيل هو "دفاع عن النفس" و"محاربة الإرهاب" الذي لا تستطيع السلطة وقفه، كما أن تهمة الإرهاب تلصق بالسلطة ذاتها، حتى بعد أن أصبح على رأسها محمود عباس، الرجل الأكثر دعوة إلى اعتماد المفاوضات مع إسرائيل. وهذا ما ما يغطّي، إلى حد كبير، على حقيقة سياساتها الاحتلالية في الأراضي الفلسطينية. ففي حال دفعت السلطة إلى الانهيار، ستجد نفسها في مواجهة سافرة ومباشرة مع الشعب الفلسطيني، من دون أن تجد عنوانا واضحا لتبرير سياساتها الاحتلالية، وهو ما لا تستطيع إسرائيل تحمّله. ما كسبته إسرائيل من وجود السلطة الفلسطينية لتبرير سياساتها الاستيطانية والقمعية لم تكسبه عندما كانت سلطة احتلال عارية.
من وجهة النظر الإسرائيلية، يبدو الحفاظ على السلطة الفلسطينية أقل كلفةً من مواجهة مباشرة مع الفلسطينيين، في حال انهيار السلطة. ويُعطي هذا الوضع أيضا الإسرائيليين ميزة عدم تحمّل مسؤوليتها بوصفها قوات محتلة. بمعنى أنها لا تعتبر نفسها مسؤولةً عن الدمار الذي تُحدثه في الأراضي الفلسطينية، وليست مسؤولةً عن معاناة الناس ومشكلاتهم، فهم تحت ولاية السلطة الفلسطينية. فمنذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية، أحد الاعتبارات الحاسمة في اتخاذ حكومة إسرائيل القرارات المتعلقة بالعمليات في الضفة الغربية وقطاع غزة هو مراعاة عدم انهيار السلطة الفلسطينية، أو حتى انهيار سلطة "حماس" في القطاع. في سنوات الانتفاضة، عرّف متحدثون إسرائيليون، مرات كثيرة، السلطة بأنها "موبوءة بالإرهاب". على الرغم من ذلك، توصل متخذو القرارات في إسرائيل، في نهاية المطاف، إلى أنه يجب المحافظة على مؤسسات السلطة في كل الحالات، والسبب بسيط: إذا توقفت أجهزة السلطة الفلسطينية عن الأداء، أي وزارات الحكومة، البلديات، سيضطر الحكم الإسرائيلي إلى القيام بمهامها. بكلماتٍ أخرى، ستكون هناك حاجة آنذاك إلى تجديد الحكم العسكري والإدارة المدنية، كما كان الوضع قبل تطبيق اتفاقات أوسلو. سيضطر ضباط هيئة الأركان الإسرائيلية إلى تحمّل مسؤولية التعليم، الصحة، البنى التحتية، المياه، الكهرباء، الطرق وبقية الخدمات. وستضطر حكومة إسرائيل إلى الاهتمام بتوفير مصادر عمالة وغذاء لأكثر من أربعة ملايين نسمة هم سكان الضفة وغزة، وستضطر إلى وجود عسكري إسرائيلي في المناطق السكنية الفلسطينية. يُظهر حساب بسيط أن ذلك سيكلف الخزينة الإسرائيلية مليارات الدولارات، ومزيدا من الإدانات الدولية.
أخذت التبريرات، مع نتنياهو، منحىً آخر، حيث قال بصلافةٍ، قبل حوالي أسبوعين أمام مؤتمر المنظمات اليهودية في أميركا الشمالية، إن السلطة الفلسطينية "مستفيدة" من وجود إسرائيل في الضفة الغربية. وأضاف "لولا وجودنا في الضفة الغربية، لأطاحت حركة حماس السلطة الفلسطينية في دقيقتين، كما أطاحتها في غزة". وزعم نتنياهو أن قطاع غزة "أصبح معقلا للإسلام المتطرّف، بمساعدة ودعم إيرانيين، لأن إسرائيل انسحبت منه، وهذا ما سيحصل في الضفة الغربية، إذا انسحبت إسرائيل منها أيضا". ورأى أن حل الصراع مع الفلسطينيين "يكمن بأن تكون لديهم القدرة على إدارة أنفسهم، من دون تشكيل تهديد على إسرائيل".. كيف ذلك؟ ليست هناك إجابة لدى نتنياهو. إسرائيل تحمي الفلسطينيين من بعضهم بعضا كما يدّعي نتنياهو، والكلام الضمني العنصري في كلام نتنياهو أن الفلسطينيين غير قادرين على حكم أنفسهم. ولذلك يجب أن يبقوا تحت الاحتلال الإسرائيلي كعمل خيري!
الأكيد أن ما تقوم به إسرائيل يخدم مصالحها، وليس مصالح الفلسطينيين، فهي بحفاظها على السلطة الفلسطينية لا تحمي الفلسطينيين من أنفسهم، كما يدّعي نتنياهو، وإنما تعمل على خفض الكلفة السياسية والأخلاقية والمالية للاحتلال السافر الذي يجثم على صدر الفلسطينيين، بتصوير نفسها راعية الاعتدال في الأراضي الفلسطينية، في مواجهة الإرهاب الذي يتهدد الجميع، وأن ما يجري في الأراضي الفلسطينية ليس صراعا بين احتلالٍ وشعبٍ يعاني من جرائم هذا الاحتلال.
سمير الزبن