دولي

مسيرات العودة.. انتصار أم انتحار؟

القلم الفلسطيني

منذ أن انطلقت في الثلاثين من مارس ذكرى يوم الأرض، وامتدت لإحياء ذكرى النكبة السبعين تزامناً مع افتتاح السفارة الأمريكية في القدس المحتلة، أثارت مسيرات العودة الكبرى لكسر الحصار عن غزة جدلاً واسعاً بين مؤيد ومتحفظ ورافض لجدواها، استخدم خلالها المتظاهرون أسلوب المقاومة الشعبية بأشكاله المختلفة، فيما قابلت قوات الاحتلال هذه المسيرات باستخدام آلة البطش والقمع والرصاص الحي والغاز المسيل للدموع.

ستة أشهر وأكثر مضت على مسيرات العودة سقط خلالها مئات الشهداء وآلاف الجرحى، لم يبالِ الفلسطينيون يوماً بأعداد شهدائهم، وجسيم فقدانهم، وما توقفوا طويلاً عن كون شهداء "الذكرى" يفوقون كثيراً يوم الأرض نفسه؛ فالعبرة لديهم ليست بالأرواح المبذولة على علو قيمتها، وإنما بجدوى ما يفعلونه ودوره الكبير في تحريك القضية والسعي نحو إيجاد حلول لقضية الاحتلال الإسرائيلي لأرضهم ومحاولة التخفيف من قبضته ونيل حقوقهم المشروعة.

كثرت التساؤلات والجدل خلال الفترة القليلة الماضية حول جدوى مسيرات العودة، أمام حالة التضحية والصمود التي يسطرها المتظاهرون في كل مخيمات العودة، ولعل من أبرز ما حققته هذه المسيرات منذ انطلاقتها، أنها أكدت على جملة كبيرة من القضايا المهمة، أولها هو تعزيز الوحدة الوطنية بالمشاركة الفصائلية الكبيرة التي شهدتها مسيرات العودة منذ انطلقت وحتى اليوم، بل وبعثت هذه المسيرات برسالة واضحة للاحتلال والإدارة الأمريكية وللعالم أجمع، أن الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يتنازل عن حقوقه وثوابته، وأعادت إحياء القضية الفلسطينية من جديد على الطاولة الدولية.

استطاعت مسيرات العودة أن تعيد للذاكرة الفلسطينية حق العودة حيث جاءت رداً مباشراً وعملياً على مشروع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الذي يستهدف تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، وذكرت العالم بحق الفلسطينيين الثابت في عودتهم لأرضهم وديارهم التي هجروا منها، ولعل من أبرز هذه القرارات القرار الأممي 194 الصادر في ديسمبر عام 1948م ، كما وشكلت مسيرات العودة زخماً سياسياً وجماهيرياً كبيراً نظراً للتحديات السياسية والإنسانية التي يعاني منها السكان في قطاع غزة نتيجة الحصار والانقسام. 

الجدوى من مسيرات العودة بعد ستة أشهر أنها تركت أثراً إيجابياً منذ انطلاقها وحتى اللحظة على المستوى السياسي الفلسطيني وخففت حالة الاحتقان الداخلي نتيجة تعطل المصالحة الفلسطينية واستمرار حالة الانقسام وصنعت حالة الوحدة الوطنية الحقيقية في الميدان، كما أنها ألقت بظلالها وتركت تداعيات سياسية على "صفقة القرن" والمخططات الدولية والإقليمية الرامية لتصفية القضية الفلسطينية.

شكلت مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار وما زالت بتطور أساليب المقاومة الشعبية هاجساً كبيراً لدى الاحتلال أمام حالة التحدي والصمود والتضحيات، حيث وجد نفسه أمام ضغط شعبي جماهيري كبير ويتزايد بشكل ملحوظ، ما دفع قيادة الاحتلال الحديث عن ضرورة إيجاد حلول مع قطاع غزة.

ما حققته مسيرات العودة حتى الآن كثير رغم استخفاف البعض لهذه الحقائق التي لا يمكن إنكارها، ومن أبرزها إفشال "صفقة القرن"، وإحياء حق العودة، وإبراز القضية الفلسطينية للصدارة على الطاولة الدولية من جديد، وفرضت أزمة قطاع غزة على جدول أعمال المستوى السياسي والعسكري والأمني لدى الاحتلال، بل ولا يزال هذا الملف يؤرق الاحتلال، كما أجبرت رئيس أركان دولة الاحتلال أيزنكوت للاعتراف أن مصدر التهديد الوحيد على الأمن الإسرائيلي هو قطاع غزة.

استطاعت مسيرات العودة وكسر الحصار أن تشكل حالة استنزاف لكل الدوائر الأمنية والعسكرية لدى الاحتلال، وإيلامه وإبقائه في حالة من التوجس والخوف، كما وفضحت انعدام ثقة حكومة نتنياهو في السياسيات التي تتبعها ضد قطاع غزة، ما أدى لتعاظم الدعوات الداخلية الصهيونية لتغيير النمط في التعامل مع قطاع غزة.

يقول محلل الشؤون العربية في القناة "العاشرة" العبرية تسيفكا يحزكيلي: حماس نجحت في إرهاقنا بالمظاهرات والبالونات الحارقة، وهي من سيحدد ما إذا كانت هناك مواجهة أخرى.

أظهرت مسيرات العودة حالة الهشاشة التي تعيشها دولة الاحتلال، ما جعلها تتوجه لمصر تارة، وللأردن تارة، وللرئيس الأمريكي ترمب وللسلطة الفلسطينية تارة أخرى؛ لضرورة العمل على احتواء الموقف ووقف هذه المسيرات التي باتت تشكل إزعاجاً حقيقياً للاحتلال، بل وبدأت تحقق جزءاً من أهدافها وماضية حتى النهاية، بعد أن شكلت رسالة واضحة لكل الأطراف الإقليمية المتهافتة على التعاون مع الاحتلال بأن الفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة قادرون على قلب الطاولة بشكل يعيد خلط الأوراق في المنطقة.

ربما يقول البعض إن فاتورة مسيرة العودة خلال الستة أشهر الماضية كبيرة، وحسب إحصائية وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة تفيد بأن قوات الاحتلال وحتى تاريخ 5/ أكتوبر قتلت برصاصها (196) مواطناً منهم (35 طفلا و 3 سيدات)، و أصابت (21220) بجراح مختلفة، وقد يطرح بين الحين والآخر: إلى متى؟ وإلى أين ستمضي مسيرات العودة؟ وربما يغمر ويلمز آخرون: ماذا حققت هذه المسيرات؟

فإنني أجزم ومن خلال متابعتي الحثيثة لمشوار هذه المسيرات أن طريق مسيرات العودة الكبرى طويل، ولا يزال في بداياته، والحرية غالية، وفاتورتها كبيرة، ومسيرات العودة ستحقق أهدافها عاجلاً أو آجلاً وقت أن يعلن الاحتلال أن كل أدوات القمع والقتل التي استخدمها لم تفلح في إنهاء هذه الظاهرة، والتجربة مع الاحتلال تفيد أن الاحتلال لن يلبي مطالب الشعب الفلسطيني إلا بعدما يستنفد كل خيارات وإجراءاته من قمع وإجرام وإرهاب بحق الشعب الفلسطيني.

مسيرات العودة اليوم هي شعلة مضيئة تعبر عن روح شعبنا وقدرته على التضحية واستمرار الثورة، وهي رسالة لكل من فقد البصر والبصيرة في كيفية استخدام قوة الشعب في اجتراح المعجزات وخلق الإبداع في مقاومة شعبية تجمع كل شركاء الوطن.

وفق المعطيات الجارية؛ فإن الأمل في أن تنجح مسيرة العودة الكبرى بفك الحصار عن قطاع غزة كبير، مسيرة العودة الكبرى هي الطريق الصحيح نحو كسر الحصار وإنجاز حقوقنا العادلة، ولن تكون بيوم من الأيام انتحاراً، بل ستصنع نصراً كبيراً يتكلل بتحقيق حياة كريمة عادلة ورفع للحصار الإسرائيلي عن قطاع غزة، فقد أثبت التاريخ أن إرادة الشعوب لها الغلبة على الاحتلال، وأن الهزيمة والانتحار لن تلحق إلا بأصحاب التشكيك والتضليل وبيع الوهم في مشاريع سياسية خادعة.

شرحبيل الغريب

 

من نفس القسم دولي