دولي

فلسطينيو 48.. العنف الداخلي وسيلة مجانية للسيطرة الاستعمارية

القلم الفلسطيني

 يحتار الفلسطينيون الناجون من النكبة، الباقون في الأرض المحتلة عام 1948، إزاء كيفية حماية أنفسهم من العنف الداخلي الذي يضرب مجتمعهم بلا توقف في السنوات الأخيرة. لم يكد يمر عامان أو ثلاثة، بعد هبّتهم الشعبية العارمة الموحّدة في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2000، ردًا على وحشية إسرائيل في قمع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حتى وجدوا أنفسهم يحترقون في عنفٍ داخلي غير مسبوق، ما جعلهم، تحديدا نخبهم، ينشغلون مجدّدا في تفكيك بنية العنف المؤسسية التي يقوم عليها الاستعمار، ومحاولة فهم علاقة هذه البنية الكولونيالية بظاهرة العنف التي تضرب المجتمع. 

ومنذ ذلك الحدث الوطني الكبير قبل 18 عاما، والذي قتلت فيه إسرائيل 13 متظاهرًا عربيا في الداخل، وجرحت مئات، وصل عدد ضحايا العنف الداخلي إلى 1263 حتى تاريخ 6\5\2018. وفِي الأشهر الثلاثة الأخيرة، قُتل أيضاً مواطنون عرب عديدون. ولا يكاد يمر يوم من دون حادث قتل أو شجار أو إصابة شخص بجروح، ما يُعمق مشاعر الإحباط واليأس وفقدان الأمان والشعور بالعجز. ولا يشمل هذا العدد بالطبع عشرات المواطنين العرب الذين قتلتهم شرطة إسرائيل في حوادث منفصلة فردية. 

أغلب غضب الناس والقادة ونشطاء العمل الأهلي موجه إلى شرطة نظام الأبارتهايد الإسرائيلي، شرطة المستعمر، ففي الظاهر، وتجسيدا لحالة التناقض التي يعيشها، يطالب الفلسطيني، حامل المواطنة الإسرائيلية، شرطة الدولة التي تضطهده بالعمل على وقف العنف، وجمع السلاح من المواطنين العرب، وهي ظاهرة غير مسبوقة، خصوصا أن نظام الأبارتهايد لم يكن يتسامح مع أي قطعة سلاحٍ يمكن أن يحملها المواطن الفلسطيني. وكانت الأجهزة الأمنية للدولة الاستعمارية الجديدة بعد احتلالها القرى العربية قد جرّدت سكانها من السلاح، من خلال حملةٍ عنيفةٍ وعدوانيةٍ، استمرت سنوات بعد النكبة، وحتى فترةٍ قريبةٍ لم تكن حتى لتمنح رخص بنادق صيد خفيفة سوى لمتعاونين معها على الأغلب. وعندما تَشُكّ أجهزة المخابرات بوجود سلاح الذي من الممكن أن يوجه ضد أهدافٍ إسرائيلية، فإنها تغزو البلدة بكتائب من قوات الشرطة والجيش والمخابرات، وتستمر أحيانا أياما. وهذا النهج متبع حتى اليوم والأمثلة كثيرة. وهذا الجهد الأمني تحديدا هو ما يعزّز اعتقاد المواطن بوقوف المؤسسة الصهيونية وراء انتشار السلاح والعنف، لأن التساهل إزاء انتشار العنف، وتشجيع انتشار السلاح، ذو تكلفة قليلة للسيطرة على الفلسطينيين من خلال تحويل العنف إلى الداخل.

لذلك بدأ وعي شعبي جديد يتشكل أخيراً، يربط انتشار السلاح وعدم القبض على معظم المجرمين بنوايا نظام الأبارتهايد الذي يعمل على نشر التدمير الاجتماعي الداخلي، كجزء من نظام السيطرة والضبط المعتمد منذ النكبة. ويعتقد الناس أنه لو أرادت شرطة الأبارتهايد جمع السلاح والقبض على المجرمين، لفعلت ذلك بنجاح كبير. يأتي هذا الوعي الجديد، بعد أن ساد فترة طويلة بين الناس غضبٌ على الذات، أي على الفاعلين المباشرين، الأفراد، أو مجموعات الإجرام وحدهم. 

ومع ذلك، ما انفكّت الحيرة تقض مضاجع هذا الجزء من شعبنا، أفراده، نخبه، ومؤسساته، إذ لم يتوصل بعد إلى المعادلة التي يمكن أن يعتمدها في مواجهة هذا الواقع المركّب، والخطر، والمرشح للتفاقم، والتردّي، بعد أن استنفدت المعادلات السابقة دورها وتأثيرها، فالنخب القيادية أخفقت، حتى الآن، في تعميم الفهم العلمي لنمو ظاهرة العنف الداخلي واتساعها، على المستوى الشعبي، بل حتى بين المؤسسات الفلسطينية؛ التربوية، والتعليمية، والاجتماعية، وإلى حد كبير بين القيادات الحزبية. وثانيا، أخفقت في التطور إلى قيادة قادرة على القيادة والتوجيه، وقيادة نضال سياسي شعبي مؤسّس على استراتيجية عمل متماسكة. ويُشكل التركيز على اتهام الشرطة وحدها تعويضا عن الإخفاق الذاتي: أولا، القصور في فهم جذور الظاهرة. وثانيا، في تقديم واعتماد استراتيجية عمل شاملة لمواجهة هذا الواقع. 

قد يكون الحديث، بالنسبة للمواطن في المحيط العربي الذي يكتوي بعنف وحشي يفوق الخيال، عن العنف في أوساط مليون ونصف مليون عربي في فلسطين، ليس ذا أهمية كبيرة مقارنة بالأهوال التي يعيشها تحت أنظمة متوحشة، بل قد يقول قائل منهم، بل كثيرون، إن وضعكم يظلّ أقل سوءًا بكثير، لكن الأمر ليس على هذا النحو، ولا يجوز الاكتفاء بأن إسرائيل أكثر ذكاء في استخدام العنف، حتى لو كانت الأنظمة العربية أكثر وحشيةً، فكلاهما متوحش، والنضال ضدهما واجب أخلاقي، والعدالة لا تتجزأ، والظلم واحد، وإن تعدّدت أشكاله ومصادره. وبالتالي، الفلسطينيون داخل الخط الأخضر، مثل أي مجموعة فلسطينية أخرى، أو أي شعب عربي آخر، تُحركهم حافزية البقاء، وتوفير الحماية للجماعة والفرد، والتطوّر، وتأمين حياة إنسانية طبيعية. كما لديهم تناقضاتهم، ليس فقط مع نظام الاستعمار، بل أيضاً فيما بينهم. وتفرقهم المصالح، كما تفرّقهم الأيديولوجيات، واختلاف مفهومهم لخصوصيتهم ولموقعهم في الدولة العبرية، وعلاقتهم مع شعبهم، ومع مستقبلهم، ومستقبل الكل الفلسطيني. 

وتحتدم السجالات في هذا الخصوص، وتختلط كثيرا الأمور عليهم بخصوص تحديد محاور انتمائهم وكيفية تحصيل حقوقهم. ومع تغوّل المشروع الصهيوني، وتعمق إفرازاته، السياسية والجغرافية، والثقافية والاجتماعية، والنفسية، تتعمق أزمة البحث عن المخرج. وتتجّلى هذه الإفرازات في تفكّك المنظومة الأخلاقية مثل ضعف التعاضد والتضامن، وشيوع الفردانية، على مستويي النخب والفرد، فمرض النجومية، وتحويل الموقع القيادي إلى امتياز شبه ثابت، والانعزال عن العيش بين الناس، أحد أشكاله البائسة. أما تقوقع الأسر على نفسها، والهوس في تحقيق نجاحات تعليمية، وضمان الوظيفة، بمعزل عن التربية الأخلاقية والوطنية، وعن الالتزام تجاه المجتمع، فقد بات مظهرا بنيويا في المجتمع. طبعا، هناك أكثر من خمسين في المائة يعيشون تحت خط الفقر، والذين تتركز أولوياتهم في ضمان النجاة، وتوفير لقمة العيش، وسداد القروض والديون. طبعا هذا ما يفسّر بعض أسباب انحسار النضال الشعبي بصورة حادّة، واختزال العمل السياسي، أو اللاسياسي، في نخبةٍ قياديةٍ تحتل رأس الهرم في الهيئات التمثيلية المشتركة، مثل لجنة المتابعة العليا (مظلة للأحزاب ورؤساء السلطات المحلية تشكلت أوائل الثمانينيات) والقائمة المشتركة التي تضم كل أعضاء الكنيست الممثلين للأحزاب التي تخوض انتخابات الكنيست (تشكلت عام 2015)، واللجنة القُطرية للسلطات المحلية العربية (تشكلت في أواسط السبعينيات.). 

عوض عبد الفتاح

 

من نفس القسم دولي