دولي

المال الأميركي ابتزاز وضغوط لتصفية القضية

القلم الفلسطيني

هناك من يتذمرون بسبب قرار أميركا بقطع الأموال عن السلطة الفلسطينية والأونروا، ويرون أن هذا القطع سيؤثر على مستوى الخدمات التي يتم تقديمها للشعب الفلسطيني..

ولا شك أنه سيؤثر على الخدمات التي تقدمها الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين، لكن تأثيره على السلطة الفلسطينية سيكون ضعيفا لأنها تدفع يدها دائما في جيوب الناس لكي تكون لهم شريكا في أموالهم؛ أي أن القرار الأميركي سيؤدي إلى مزيد من الأذى الذي تقدمه السلطة لجمهور الناس.

بدل التذمر من الإجراءات الأميركية، المفروض أن يتعلم الفلسطينيون وكل العرب أن الاعتماد على الآخرين في توفير الأمن وتوفير لقمة خبز الناس جريمة كبيرة لا تغتفر. وكل حاكم يلجأ إلى هذا الأسلوب إنما يضع إرادة شعبه تحت رحمة الآخرين، ولا يحصن نفسه وشعبه ضد ما يمكن أن يتخذه الآخرون من إجراءات. كم صرخنا عبر السنوات ضد الترتيبات المالية التي وضعتها السلطة الفلسطينية، ومع كل صرخة كانوا يقولون لنا إننا جماعة سوريا وإيران، ويتهموننا بأننا لا نريد سلطة فلسطينية. هذه أقوال مسيسة وغبية ولا تنم إلا عن عدم معرفة وضحالة علمية، والآن تتكشف الأمور وتصبح أكثر وضوحا للجميع.

قد يحتاج الحاكم معونات مالية لتسيير الدولة أو أمور الناس لكن عليه أن يقوم بأمرين وهما: الحرص الشديد على الإنفاق، فلا يبذر ولا يسرف، والحرص على الاستثمار وتنمية الإنتاج. في فلسطين، فتحت السلطة الفلسطينية يدها وكأنها تمتلك كنوز الأرض. أقدمت على توظيف الناس بطريقة جنونية على الرغم من أن الشعب ليس بحاجة إلى هذا العدد الهائل من الموظفين..

أقيمت أجهزة أمنية متعددة على الرغم من أن الشعب بحاجة إلى جهاز شرطة فقط لإقامة الأمن المدني. لا ضرورة لباقي الأجهزة الأمنية، ولا ضرورة لوظائف لا يقدم القائمون عليها أي خدمة للشعب الفلسطيني. وخصصت السلطة ما يسمى بالنثريات، وبأموال تقاعد، ونفقات سيارات من وقود وصيانة، الخ. هذا فضلا عن الفساد المالي والتلاعب بالتكاليف، وما شابه.

لقد حملت السلطة الفلسطينية نفسها والشعب الفلسطيني ترتيبات مالية وكأنها دولة حقيقية وصاحبة اقتصاد مزدهر وتتمكن من تغطية نفقاتها، وكانت النتيجة تحميل الناس أعباء ضريبية هائلة، ورسوما معاملات عالية؛ أي أن سنغافورة التي وعدت بها الناس بعد اتفاق أوسلو أصبحت ابتزازا للناس لكي يمولوا السلطة.

ولهذا دائما كنا نصر على أن الاعتماد على الآخرين جريمة لا تغتفر وخاصة أنه لم تحصل استثمارات توفر فرص عمل للناس. صحيح أن الصهاينة يعوقون الاستثمار، لكن المسؤول يستعمل هذه الحجة دائما ليبقى في نعيم السرقات والاختلاسات، والإساءة إلى المستوى الأخلاقي والنسيج الاجتماعي.

لم يكن الأميركيون بدون نوايا سيئة عندما خصصوا أموالا للأنوروا وللسلطة الفلسطينية. بالنسبة للأنوروا، صوت الأميركيون عام 1948 لصالح القرار رقم 194، ووافقوا على إقامة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، لكنهم كانوا يظنون أن الشعب الفلسطيني سيفقد وعيه بقضيته خلال ثلاثين عاما، وتطمئن بعدها إسرائيل، ولن يكون هناك من يتحدى وجودها. الرؤية الأميركية لم تتحقق، وبقي اللاجئون يشكلون عقدة للعالم الغربي الاستعماري. وبما أن الهدف لم يتحقق فإن أميركا وجدت أن لا جدوى من الاستمرار في الإنفاق على مؤسسة تشكل وعيا عالميا بقضية اللاجئين. أميركا تريد تصفية قضية اللاجئين وكذلك الصهاينة وباقي الدول الغربية الاستعمارية.

الأونروا لم تقم بعمل استثمارات لتشغيل الناس، وبقيت الوظائف محصورة بالخدمات المختلفة التي قدمتها عبر الزمن. لكن ماذا فعلنا نحن من أجل تجنب ضغوط المستقبل؟ لا شيء. لقد تركنا اللاجئين يتدبرون أمورهم مع المؤسسة الأممية، ولم نقم بنشاطات من شأنها تقديم الحد الأدنى من احتياجات اللاجئين اليومية. حتى إن بعضهم لم يعد معنيا بقضية العودة. ووفق ما جادلني فيه ضابط مخابرات فلسطيني، قال بأن من يريد حق العودة لا يريد إقامة سلام في المنطقة.

الضغط المالي الأميركي يهدف الآن إلى التضييق بالمزيد على اللاجئين الفلسطينيين بالأخص المخيمات التي تشكل الرمز الأبرز للقضية الفلسطينية.

قد يؤدي هذا التضييق إلى ارتفاع منسوب رغبة الشباب الفلسطيني إلى الخروج من المخيمات إلى دول عربية أو أوروبية. والهجرة هذه ستخفض من أعداد اللاجئين بخاصة من الفئة التي ستحمل المستقبل. ولهذا من المتوقع أن تضغط أميركا على دول أوروبية مثل النرويج والسويد لتسهيل هجرة الفلسطينيين إليها. 

وستضغط على كندا وأستراليا ودول عربية من أجل تبني ذات السياسة. فإذا كان تشتيت الفلسطينيين عنوة غير ممكن، فمن الضروري تشتيتهم بالمزيد من خلال الفاقة والجوع وسوء الأحوال.

ونحن بدورنا، ومن أجل منع الدول من تسهيل خروج اللاجئين علينا أن نشجع الفلسطينيين في كل مكان على التنظيم والتكتل من أجل أن يكون لهم حضور مؤثر في الساحات الداخلية التي يتواجدون فيها. ومن المهم أن تكون للفلسطينيين ترتيبات أمنية تؤثر على قرارات هذه الدول. عندها ستجد هذه الدول أن التسهيل سيرتد سلبا عليها فتتوقف عن طاعة الولايات المتحدة. السلطة الفلسطينية لن تقوم بهذه المهمة، وتبقى المسألة مسؤولية الفصائل.

أما من زاوية السلطة، فأميركا لم تكن بريئة أيضا. لقد دفعت أميركا باتجاه رفع أعداد الموظفين الرسميين في السلطة الفلسطينية من أجل تحقيق عدة أغراض وهي:

1- زيادة أعداد الفلسطينيين الذين يعتمدون في معيشتهم على الرواتب، وبالتالي يشكلون جيشا للدفاع عن مسألة الاعتماد على الآخرين والتخلي عن الإرادة السياسية الحرة.

2- زيادة نفقات السلطة الفلسطيني ليسهل تصفيتها أو تحريكها وفق إرادة الغير. فكلما زاد اعتماد السلطة على أموال يتحكم بها الغير تزداد تبعيتها.

3- إضعاف الإنتاج الفلسطيني؛ حيث تشكل الرواتب والوظائف مصدر استقطاب للشباب فيخرجون من مزارعهم وورشهم للالتحاق بوظائف لا تتطلب المشقة والتعب. وهذا ينطبق بشكل أكثر على الأجهزة الأمنية التي لا تستطيع إطلاقا الدفاع عن الأمن الوطني.

عبد الستار قاسم

 

من نفس القسم دولي