دولي

هذه دلالات وتداعيات قرار ترمب بشأن الأونروا

القلم الفلسطيني

حينما خططت "إسرائيل" لفرض الحصار على قطاع غزة بعد فوز حماس في الانتخابات في يناير/ كانون الثاني 2006، ثم آلت إليها مقاليد الأمور فيه بعد الاشتباكات مع حركة فتح في يونيو/ حزيران 2007، صرح مستشار لرئيس وزراء "إسرائيل" إيهود باراك في ذلك الوقت بكلمات لم يجرؤ على البوح بها غيره منذ ذلك الحين. 

قال دوف فايسغلاس: "الفكرة هي إجبار الفلسطينيين على اتباع نظام تغذية متقشف، لكن دون التسبب في موتهم جوعا.

كانت وحشية فايسغلاس تبلغ من الصراحة ما لم يكن معهودا لدى الولايات المتحدة والحكومات المانحة والأمم المتحدة ومنظمات العون الدولية، رغم أنها كانت في واقع الأمر تطبق نفس المبدأ. فقد كانت المساعدات الدولية تبقي الفلسطينيين على قيد الحياة، لكنها كانت لا تكفي للمعيشة، فكل المساعدات كانت أدنى مما هو مطلوب.

ولهذا السبب أمسك بنيامين نتنياهو في بداية الأمر لسانه عندما أعلن ترمب عن قراره قطع كل التمويل الذي كانت تقدمه الولايات المتحدة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (الأونروا)، والتي أنشئت في عام 1949 للتعامل مع النزوح الجماعي لما يقرب من سبعمائة ألف لاجئ، وكذلك الاعتراف فقط بعُشر اللاجئين الذين يبلغ تعدادهم اليوم خمسة ملايين نسمة. 

كانت المخابرات الإسرائيلية أول من قرع جرس الإنذار حول قرار ترمب، وذلك على الرغم من أن الشين بيت والوزارة الأمنية الإسرائيلية ليسوا ليبراليين متخفين، ولا يكنون أي شعور بالذنب تجاه معاناة الفلسطينيين. 

ومثلهم مثل معظم الإسرائيليين، لا يرون التناقض الحاصل في الاعتراض على وجود جيل رابع من اللاجئين الفلسطينيين بينما نفس الوقت يمنحون حق المواطنة في أرض "إسرائيل" لكل من يولد يهوديا، وعلى مدى مئات الأجيال المتعاقبة.

ومثلهم في ذلك مثل نتنياهو، يزعمون أن الأونروا لديها مصلحة مؤسساتية في إدامة مشكلة اللاجئين، ومثل نتنياهو لم يعد بإمكانهم تقبل ولو حتى حقا رمزيا للفلسطينيين في العودة.

إنما مصدر قلقهم هو الجانب الأمني، وبشكل أساسي ما يتهدد "إسرائيل" من خطر أمني. فلو أخفقت مدارس الأونروا في فتح أبوابها في الموعد ككل عام هذا الخريف، وإذا ما ترك الآلاف من الفتيان يتسكعون حول المخيمات ولا شاغل يشغلهم سوى التقاط الحجارة من الأرض، فسوف يكون الجنود الإسرائيليون في خط النار. تتمثل السياسة المتبعة في الحفاظ على الأحوال التي تضمن احتلالا بأقل التكاليف، فالصراع ثمنه باهظ. 

فقد ذكّروا رئيس الوزراء بأنهم يعتمدون على التعاون الأمني مع السلطة الفلسطينية وأنه ليس من مصلحة "إسرائيل" التسبب في تدهور الاقتصاد الفلسطيني وإشعال موجة جديدة من الاحتجاجات على الحدود مع غزة 

طفا إلى السطح حنقهم بسبب الاختلاف مع نتنياهو حول هذه المسألة. فقد بثت القناة العاشرة الإسرائيلية تقريرا أعده باراك رافيد يفيد بأن نتنياهو تخلى عن سياسة دعم تمويل الأونروا في خطاب أرسله شخصيا إلى البيت الأبيض قبل أسبوعين. وقد أقدم على ذلك "دون إجراء أي مشاورات ذات بال مع قادة الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن والمخابرات الإسرائيلية. 

تجاوز نتنياهو لجنته الوزارية المكلفة بشؤون الأمن الوطني، ويقول التقرير إن أعضاء اللجنة أخذوا على حين غرة.

وجهوا اللوم لترمب معتبرين أنه تصرف كما لو كان كاثوليكيا أكثر من بابا الفاتيكان نفسه حينما اندفع على عجل للإجهاز على فكرة أن "القدس الشرقية" عاصمة الدولة الفلسطينية ووأد مشكلة اللاجئين لدرجة أنه هدد بتدمير المشروع بأسره، والذي يتمثل بترجمة مزاعم "إسرائيل" بحقها في كامل الأرض إلى واقع ملموس.

إلا أن تبرير ترمب كان أشد غلظة من ذلك، وهو ما عبرت عنه سفيرته لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي عندما قالت إن الرئيس محمود عباس يعض اليد التي تطعمه من خلال رفضه للمفاوضات وإحراجه للولايات المتحدة ولـ"إسرائيل" وللأمم المتحدة. 

وقالت هايلي في كلمة داخل مجلس الأمن الدولي: "الأمريكان شعب في غاية السخاء، نحب تقديم المساعدات الإنسانية، ونحن مستمرون في البحث عن وسائل لمساعدة الشعب الفلسطيني، الذي تشكل معاناته مصدر قلق حقيقي لنا. ولكننا لسنا مغفلين، فإذا مددنا يدا للصداقة والسخاء، فإننا لا نقبل بأن تعض يدنا. وحينما نمد يدنا فإننا نتوقع أيضا من الآخرين أن يمدوا أياديهم.

تصرفات ترمب بالفعل تصعب الأمور على حلفائه العرب، فهو يكشف نفاقهم إذ يسارعون دوما إلى الدفاع عن أشقائهم الفلسطينيين ولكنهم لا يهبون لنجدتهم وتقديم المساعدة اللازمة لهم. ففي العام الماضي أنفقت المملكة العربية السعودية على شراء الأسلحة الأمريكية ما يعادل ألفي ضعف ما تقدمه من تمويل للمدارس الفلسطينية. 

ووقعت صفقات نوايا بقيمة 110 مليار دولار مع الولايات المتحدة لشراء أسلحة، بينما لا تنفق سوى 51 مليون دولار على الأونروا، وتحتل المرتبة السادسة في قائمة الدول الأكثر إنفاقا عليها، وتأتي بذلك بعد المملكة المتحدة. يفضح ترمب النفاق العربي كما لم يسبق لرئيس أمريكي أن فعل ذلك من قبل.

كما إنه يتسبب في خلق أزمة داخلية في بلدين عربيين من حلفاء بلاده هما الأردن ولبنان، حيث إن استقرار كل واحد من هذين البلدين يتوقف على الإبقاء على تعريف اللاجئ الفلسطيني كما هو. بمجرد أن يفكك ترمب الأونروا سيفقد ملايين الفلسطينيين ليس فقط مدارسهم وخدماتهم الصحية وموارد دخلهم، بل وكذلك وضعهم وهويتهم.

ولكنهم لن يختفوا من على وجه الأرض. أين عساهم يذهبون وقد سلبوا من حلم العودة إلى فلسطين ولم يبق لديهم ما يحفزهم على البقاء حيث هم؟ ستكون وجهتهم، بكل وضوح، هي الشمال، وسيشقون طريقهم نحو أوروبا. 

ماذا سيكون شعور ألمانيا وفرنسا حينما تنطلق موجة أخرى من اللاجئين باتجاه سواحل أوروبا. لم يعد هذا الأمر مستبعدا بتاتا، وخاصة إذا ما أطيح إلى الأبد بالأمر الواقع الذي يعيش فيه الفلسطينيون.

دفيد هيرست

 

من نفس القسم دولي