دولي

غزة واستراتيجيات التعامل

القلم الفلسطيني

منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي لم يمر عليه حالة من التهديد وتنامي الخطر الاستراتيجي كالذي يعيشه اليوم، لعل ذلك يعود إلى استحداث وتوسع جبهات الصراع حوله وظهور العدو الأيديولوجي وغيره، وسنعمل في هذا المقال على الحديث عن الجبهة الجنوبية "غزة" واستراتيجيات تعامل الطرف الإسرائيلي معها وما هو الشكل القادم لها.

تعتبر جبهة غزة من الجبهات التي ظهرت حديثا، كمهدد يمكن وصفة بالاستراتيجي على "إسرائيل"، هذه الجبهة توصف بأنها تتطور بشكل سريع، تعود العداوة فيها منذ فترة طويلة وتعتبر بؤرة لعدم الاستقرار ومصدرًا للإزعاج من النظرة الإسرائيلية، ولكن بعد فوز حركة حماس وسيطرتها على القطاع عملت الأخيرة على التطوير الدائم لقدرتها العسكرية والعلمية، وبسط نفوذ سيطرتها والتنسيق مع كل مكون داخلي أو خارجي تلتقي معه بهدفها الاستراتيجي الذي ترفعه، ولكن تتصف هذه الجبهة بأنها الأضعف مقارنة بغيرها، تعتبر هذه الجبهة داخلية، وذات مقربة كبيرة من المدن الإسرائيلية، كل ذلك يجعل عملية تطورها خطرا داهما لا يمكن السكوت عنه، وهذا ما يفسر كثرة العدوان عليها والعمل الدائم على إضعافها وفرض الحصار عليها.

اليوم "إسرائيل" تواجه مخاطر على الجبهات المختلفة بشكل متزامن، وأيضا قد تكون بشكل متداخل، وجميعها يمكن وصفها الآن بأنها على درجة عالية من السخونة التي يمكن أن تتطور بها مجريات الاحداث، ففي لبنان وسوريا حالة التسلح غير المسبوقة بالإضافة إلى البرنامج النووي الإيراني، وفي غزة مسيرات العودة وحالة الاستنزاف التي تحدث على الحدود ومستوطنات "الغلاف" للقطاع بالإضافة إلى ملف المفقودين من جنودها وحالة التسلح الدائم، تعمل "إسرائيل" وفق العديد من السيناريوهات وتحاول أن تجزّئ المشهد وترسم استراتيجيات خاصة بكل جهة على حدة، وسوف أتحدث بنوع من الخصوصية عن جبهة غزة؛ وذلك لأنها الأكثر تسارعا بالأحداث مع التنويه على حجم ارتباط المشهد والتأثر المتبادل بين غزة وباقي الجبهات الأخرى.

يوجد لدى "إسرائيل" العديد من الاستراتيجيات في التعامل المبنية على السياسات المختلفة التي يمكن ان تتعامل بها مع القطاع بعضها تم تطبيقه وبعضها لم يطبق، سنعمل على الحديث عن هذه الاستراتيجيات. 

وأما خروج الشارع الغزي على الحركة فهذا أمر مستبعد؛ لأن الشارع الفلسطيني يعي جيدا من هو المتسبب في أزماته، ولما استحكمت المؤامرات على القضية تحركت الجماهير بعشرات الآلاف على السياج الحدودي مع الكيان الإسرائيلي بعنوان مسيرات العودة وكسر الحصار بدعوة من حركة حماس والفصائل الفلسطينية والنخب المجتمعية، فتوجهت كرة اللهب صوب الاحتلال وانفجر الشعب بوجه السجان وأظهرت حماس من جديد مدى قوتها وحجم تأثيرها وسيطرتها.

وخلاصة القول إن هذه الاستراتيجية صعبة التحقق وإن تحققت، يوجد لها مخاطر كثيرة وكبيرة من خلال فقدان السيطرة على القطاع وحالة الفوضى والتبعية الاقتصادية وغيرها من القضايا التي تخدش أيضا هدف هذه الاستراتيجية في حال تحققها من الزاوية الإسرائيلية. كل ذلك يجعل صانع القرار في تل أبيب يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على أي عمل عسكري.

قد تظهر هذه السياسة بعد فشل المحاولة في إنهاء المقاومة في قطاع غزة بالتأكيد ستكون عبارة عن وقف إطلاق النار من الطرفين "هدنة"، ومجموعة المشاريع والبرامج الاقتصادية التي تعمل على تحسين الواقع في القطاع، ولعها يمكن أن تأخذ بعض الأشكال التي سنجملها بالآتي:

1) الإبقاء على الوضع القائم: يستمر من خلالها جيش الاحتلال بمشروع الجدار حول الحدود، والاستمرار في تطوير قدراته بهدف التقليل من آثار القوة التي تتملكها المقاومة، ويكون ذلك من خلال بعض التسهيلات الاقتصادية وبعض المشاريع الدولية التي تمنع القطاع من الانفجار وتعمل على تسكينه.

2) شبه إدارة ذاتية: وهو من خلال منح غزة بعض الصلاحيات في إدارة ذاتها في أغلب القطاعات المجتمعية عبر جهات دولية وجمهورية مصر العربية.

3) المصالحة الفلسطينية: وهو من خلال فرض المصالحة على حركة حماس وإعادة تفعيل الأجهزة الأمنية التي تتبع للسلطة الفلسطينية في قطاع غزة وسيطرة الحكومة على القطاع، والعمل على التحضير للانتخابات التشريعية والرئاسية والبلدية.

ولو نظرنا إلى هذه الأشكال المختلفة سنجد أن الشكل الأول لن يعطي حلا حقيقيا؛ وإنما ستكون الأمور قابلة للانفجار بأي لحظة وحالة الهدوء التي تحققه هي حالة مزيفة مع العلم أنه تقريبا هو الشكل القائم منذ حرب 2014م، أما الخيار الآخر فهو خيار له بعض الأيجابيات من الطرف الإسرائيلي لأنه يتماشى مع فكرة حصر فلسطين في المستقبل بهذا القطاع والعمل على ابتلاع الضفة الغربية وتوسيع وزيادة البؤر الاستيطانية، ولكن تواجَه هذه الخطوة برفض لدى أطراف كثيرة في المنطقة ولها مخاطر وسلبيات من وجهة "إسرائيل"؛ لإمكانية توفر بيئة لدى المقاومة تؤهلها للعمل والتطور بشكل كبير.

كما أنها ستعمل على إضعاف السلطة بشكل كبير؛ مما قد يؤدي إلى تآكلها في الضفة الغربية في المستقبل، وهذا له تداعيات سلبية ومخاطر أمنية، ولكن يجب الانتباه هنا أن هذا الشكل يمكن أن يحقق المقولة "اترك لخصمك شيئًا يخسره" بمعنى أن يكون القطاع تحت مسؤولية حماس بشكل أو بآخر هذا يعمل على تربيط حماس من خلال الأمور الحياتية لسكان القطاع، وهذا يعزز الخيار لدى الطرف الاسرائيلي.

أما الشكل الثالث فهو مقبول عربيا ودوليا، ويمكن أن يكون هناك احتضان له وتوفير رزمة من المشاريع، ولكن هذه المصالحة يجب أن تخضع لها حماس، وأن تكون منطلقا لتقييد الحركة لا منطلق قوة لها، وأن تمنح فيها السلطة حالة السيطرة على القطاع، ولكن التخوف هو من سيطرة حماس على أجسام السلطة والمنظمة في أي استحقاق انتخابي، لذلك تعتبر هذه قضية مقلقة للجميع.

وختاماَ يمكن لنا القول إن "إسرائيل" ستذهب إلى استراتيجية الاحتواء في تعاملها مع القطاع وقضاياه المختلفة، هذا القطاع الذي يعتبر من أكثر المناطق كثافةً بالسكان، ويواجه مشاكل اقتصادية واجتماعية، كل هذه القضايا قد تنفجر في أي لحظة، و"إسرائيل" غير جاهزة ولن تستطيع تحمّل ذلك، وتحاول جاهدة إشراك العالم في حل القضايا المختلفة للقطاع، وهذا ما يفسر الدور الملحوظ لدى مندوب الأمم المتحدة، ولعل شكل الاحتواء سيصعب التنبؤ به، وأيضا حتى لو تم اختيار شكل معين يمكن أن يتحول لشكل آخر بتغير الظروف والمعطيات، ولكن يجب الإشارة إلى أنه قد يتم استخدام علميات جراحية "عملية عسكرية" من أجل معالجة موضوع السلاح وملف المفقودين إذا لم تعطِ حماس المرونة المطلوبة في هذه القضايا، قبل الذهاب لأي حل مع قطاع غزة.

محمد هنية

 

من نفس القسم دولي